تركي الدخيل
TT

وقع المحذور... زالَ الحَذَر!

استمع إلى المقالة

مَرِضَ عبدُ الملكِ بنُ عمرَ بن عبدِ العزيز، فَجَزِعَ والدُه عليهِ، ثم ماتَ الابنُ، وبينمَا كانَ عمرُ يدفِنُ فَلذةَ كَبِدِه، رَأى رجلاً يتكلَّمُ، ويُشِيرُ بشِمالِهِ، فَصَاحَ به: إذَا تكلَّمتَ فأَشِرْ بِيَمِينِكَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا رأيتُ رُجلاً دفَنَ أعزَّ النَّاسِ عَليهِ، ثُمَّ هوَ تَهُمُّهُ يَمِيْنِيَ مِنْ شِمَالِيَ!

فقالَ عُمرُ: «إِذَا اسْتأثَرَ اللهُ بِشَيْءٍ فَالْهَ عَنْهُ».

ورُئِيَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، مُتَسلّياً، بعد فَقدِ ابنِه، فسُئِلَ، فقالَ:

إنَّمَا كَانَ جَزعِي، رِقةً لهُ ورَحمةً، فلمَّا وَقعَ القَضاءُ، زالَ المحذورُ.

فأمَّا قولُه: «فالْهَ عنه» فعل أمرٍ، أي اتركْه. أي تلهَّى عنه.

قالَ المُبرِّدُ: يُقالُ: لَهيتُ عنِ الأمْرِ ألهَى؛ إذا أضربتُ عنه، ولهوتُ ألهُو، من اللعب.

قُلتُ: وليسَ المقصودُ بقولِه: «فَالْهَ عنه»، أن تلهَى بلهوِ اللعب، بل تَلهَى بالإعراضِ والانشغَالِ عنه بغيرِه، ومنه قوله تعالى: «فأنتَ عنهُ تَلَهَّى»، أي تُشغلُ نفسَك بأمرٍ آخرَ.

وقالَ الشَّاعرُ:

ألهَى بنِي تَغلبٍ عَنْ كُلّ مَكرُمَةٍ

قصيدةٌ قالَها عَمرُو بنُ كلثومِ

قال البحتري:

صعوبةُ الرُّزْءِ تُلْقى في تَوَقُّعِه

مُسْتَقبَلًا وانْقِضاءُ الرُّزْءِ أنْ يَقَعَا

الرزءُ: المصيبة، وإنَّما تكونُ المصيبةُ صَعبةً شَاقَّةً، في وقتِ ترقُّبِها، قبل حُلولِها، لكنَّهَا تزولُ إذا وَقعتْ.

وفي الأُفقِ نفسِه، يقولُ أبو نواس، يرثِي الخليفةَ المأمونَ:

وكُنْتُ عَلَيْهِ أحْذَرُ المَوْتَ وَحْدَه

فلَمْ يبقَ لِي شَيْءٌ عليهِ أُحَاذِرُ

يعني: تُوفّيَ الذي كنتُ أخافُ عليهِ الموتَ، فما بَقِيَ بعدَ رحيلِه ما أخشَاه.

واتفق الأصمعي، والمفضّل الضَّبّيّ، وأكثرُ الرُّواةِ، على أنَّه لم يبتدئ أحدٌ من الشُّعراءِ بمرثيةٍ أحسنَ من ابتداءٍ، أوسِ بن حجر، في قولِه:

أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعاً

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

وَسِرُّ تفضيل مطلعِ مرثيةِ أوسٍ، أنَّه بدأَ قصيدَتَه بمَا يختمُ به النَّاسُ الرّثاءَ عادةً.

حذفَ الشِّاعرُ المُقدِّماتِ، واستبعدَ التَّمهيداتِ، وكأَنَّه يُرَدِّدُ قانونَ الهندسة: «أقصرُ مسافةٍ بين نقطتين هي الخطُّ المستقيم».

وبالخَطّ المستقيمِ، كانَ أوْسُ صريحاً ومباشراً مع نفسِه، فزجرَهَا، وأمرَهَا بالتَّوقُّفِ عن الجَزَعِ فوراً.

والجَزَعُ: نَقيضُ الصَّبرِ، وهو انْقِطَاعُ المنَّةِ عَنْ حَمْلِ مَا نَزَلَ بالمرءِ من مَصَائبَ.

لكنَّه لم يكتفِ بأمرٍ بلَا تبريرٍ، بل برَّرَ في عَجُز بيتِه، سببَ أمرِه، فقالَ:

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

تحذرينَ: الحذر: التَّحَرُّزِ وَالتَّيَقُّظِ.

وما تحذره النفس، هو فقد الأحبة بموتهم، والحذر يكون قبل حدوث ما يُحذر منه، فإذا وقع وحدث، فليس هناك ما يُحذر منه. والعربُ تقولُ: الحذرُ أشدُّ من الوَقيعةِ.

وبرَّرَ ابنُ المظفَّرِ الحَاتِمِيّ، اعتبارَهم بيتَ أوسٍ السَّابق، أحسنَ ابتداءِ مرثيةٍ، بقوله:

«لأنَّه افتتحَ المرثيةَ بلفظٍ نطقَ به علَى المَذهبِ الذي ذهبَ إليهِ منهَا في القصيدة، فأَشْعَرَكَ بِمُرادِه، في أوَّل بيتٍ، وهذا نهايةُ وصفِ الشِّعْر، والشاعر».

قد نجدُ أنفسَنا ننساقُ دونَ وَعي، لنعيشَ الألمَ بعدَ وقوعِ ما نحذرُ، والواجبُ على العَاقلِ أنْ يُبادرَ بزجر نفسِه، ويقولُ لها حَازماً:

أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعاً

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

لكن يبدو أنَّ ابنَ الرومِي كان لا يكترث بكلّ هذا؛ إذْ يقُولُ في فقدِه ابنَه محمداً:

أوَدُّ إذَا مَا المَوتُ أوْفَدَ مَعْشَراً

إلى عَسْكَر الأمْواتِ أنِّي من الوفْدِ