د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

ثمن الإصلاحات الاقتصادية في الأرجنتين

استمع إلى المقالة

ما زال الرئيس الأرجنتيني (خافيير ميلي) في العام الأول من رئاسته، وهو عام تميز بإصلاحات اقتصادية جذرية وبيئة وطنية مضطربة، وقبل وصوله إلى السلطة، تعهد (ميلي) بإحداث تحول جذري، ووعد بمعالجة المشاكل المالية العميقة التي تواجهها الأرجنتين، وقد تضمن ذلك خفض الإنفاق الحكومي، وتقليص حجم القطاع العام، وجذب الاستثمار الأجنبي لإحياء اقتصاد يواجه صعوبات كبيرة، وبعد أقل من عام، كان أكثر ما ركزت عليه الصحافة وتحديداً خلال الأسبوع الأخير، هو ارتفاع نسبة الفقر في الأرجنتين، حيث أصبح أكثر من نصف الأرجنتينيين يعيشون تحت خط الفقر، وزادت نسبة الفقر أكثر من 10 في المائة خلال فترة الرئيس الحالي، فما الإصلاحات التي استهدفها الرئيس الجديد؟ وهل تكفي نسبة الفقر المعلنة التي تصدرت الأخبار في الحكم على سياسات الرئيس الجديد؟

كان التقشف الحكومي في صميم إصلاحات ميلي، وقد قدمت إدارته بالتوازي عدداً من الحزم التشريعية تضمنت «نظام الحوافز للاستثمارات الكبرى» الذي صُمم لجذب الاستثمارات الدولية الكبيرة، ويقدم حوافز مثل التخفيضات الضريبية، وتخفيض الرسوم الجمركية، وضمانات على سعر الصرف للمشاريع التي تلبي معايير الاستثمار الصارمة، ولكي تصبح الشركات مؤهلة للحصول على هذه الفوائد، يجب أن تستثمر ما لا يقل عن 200 مليون دولار، وتسهم في خلق فرص عمل وزيادة الصادرات، وتأمل حكومة ميلي أن تؤدي هذه الإصلاحات إلى انفتاح الأرجنتين أمام الاستثمار الأجنبي، خصوصاً في قطاعات مثل الطاقة والتعدين والبنية التحتية، مما يؤدي إلى نمو اقتصادي طويل الأجل، كما تم تخفيف القوانين العمالية في إطار هذه الإصلاحات، مع تمديد فترات «التجربة» للتوظيف وتسهيل فصل العمال، وهو ما يهدف إلى تحسين القدرة التنافسية للأرجنتين في السوق العالمية، وقد أثارت هذه التغييرات اضطرابات كبيرة بين النقابات العمالية والنشطاء الاجتماعيين، الذين يجادلون بأن هذه الإصلاحات تضر بشكل غير متناسب بالطبقة العاملة.

في المقابل، تصر إدارة ميلي على أن الوضع الاقتصادي الكارثي في الأرجنتين هو نتيجة لعقود من سوء الإدارة من قبل الحكومات السابقة، خصوصاً الحكومات اليسارية التي سيطرت على السياسة الأرجنتينية لمعظم القرن الماضي، وقد كان ميلي دائماً صريحاً في انتقاده لهذه الحكومات، متهماً إياها بإغراق البلاد في الديون من خلال الإنفاق الحكومي المفرط، والسياسات الشعبوية التي أعطت الأولوية للمكاسب السياسية قصيرة الأجل على حساب الاستقرار الاقتصادي طويل الأمد، ويرى أن الأزمة المالية الحالية في الأرجنتين هي نتيجة للإفراط في الإنفاق، وسوء تخصيص الموارد والفساد، وهي مشاكل يزعم أنها تركت البلاد في حالة شبه انهيار.

والحقيقة أن العجز المالي قد تفاقم في ظل الحكومات السابقة، مع سعي الدولة لتوفير الحماية لمواطنيها من آثار الأزمات الاقتصادية المتكررة من خلال الإعانات والبرامج الاجتماعية، وعلى الرغم من أن هذه السياسات قدمت بعض التخفيف المؤقت، فإنها أدت أيضاً إلى مستويات ديون غير مستدامة، وارتفاع معدلات التضخم، مما حبس الأرجنتين في حلقة من عدم الاستقرار الاقتصادي، وبحلول الوقت الذي تولى فيه ميلي منصبه، كان التضخم قد وصل إلى أرقام مخيفة، وكانت البلاد على شفا التخلف عن سداد ديونها الخارجية، وهي ليست المرة الأولى في تاريخ الأرجنتين، فجاءت إجابة حكومة ميلي على هذا الوضع ببرنامج تقشف صارم، مصمم لخفض الإنفاق العام واستعادة الانضباط المالي، ولأول مرة منذ سنوات، حققت الأرجنتين ميزانية متوازنة بحلول منتصف عام 2024 بفضل التخفيضات الكبيرة في الإنفاق، وهو إنجاز غير متوقع بكل تأكيد، ومع ذلك، فإن هذا الإنجاز لم يخفف من المعاناة التي يواجهها المواطنون العاديون.

ولا شك أن الارتفاع السريع في معدلات الفقر، هو انعكاس لهذه الإجراءات التقشفية التي اتخذتها الإدارة الجديدة للحكومة الأرجنتينية، ولم يغب هذا الأمر على المحللين الاقتصاديين، الذي أوضحوا قبل نحو عام أن الوضع في الأرجنتين سيزداد سوءاً قبل أن يبدأ في التحسن، وهو ما يجادل به مؤيدو ميلي بأن هذه التدابير القاسية ضرورية لإصلاح الاقتصاد المتهالك في الأرجنتين، ولكن بالنسبة لكثير من المواطنين، كانت الآثار الفورية مدمرة، ولأن القرارات كانت سريعة، فقد كانت نتائجها السلبية سريعة كذلك، فانكمش الاقتصاد الأرجنتيني بأكثر من 3 في المائة في النصف الأول من عام 2024، وظل التضخم أحد أعلى المعدلات في العالم.

لقد أظهر العام الأول لـ(ميلي) في منصبه مدى تعقيد إدارة بلد يعاني من مشاكل هيكلية عميقة، وعلى الرغم من أن سياساته تهدف إلى تحقيق الاستقرار على المدى الطويل، فإنها فاقمت من الآلام الاقتصادية على المدى القصير، وهو أمر غير مستغرب بالنظر إلى الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة الأرجنتينية التي تركت ملايين الأرجنتينيين يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم، وبينما يواصل ميلي الدفع باتجاه الإصلاح، يبقى السؤال عما إذا كانت حكومته قادرة على تحقيق التوازن الصعب بين التقشف والنمو، وعما إذا كانت قادرة على الصمود أمام الاحتجاجات الغاضبة، وعما إذا كانت التضحيات التي يتم تقديمها اليوم ستترجم إلى مستقبل أكثر إشراقاً لاقتصاد الأرجنتين؟