البائع المحترف هو الذي يحدق جيداً في إيماءات الزبائن، ويرهف السمع حتى يدرك ماذا يحب الفرد وماذا يكره. هنا صارت مهمة التأثير فيهم بقرار الشراء يسيرة. لا يحتاج الأمر إلى الديباجة البالية «كيف تريدني أن أساعدك؟»، حيث كشفت الدراسات عن أن الإقناع يتأثر بـ«المحبة».
البروفسور روبرت سيالديني، أحد مستشاري الرؤساء الأميركيين، يَذكر في كتابه «التأثير» حكاية الرجل الذي كان يبيع خمس سيارات يومياً لمدة 12 عاماً، فصار أفضل بائع في العالم يدخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية. تتبع الباحثون حكايته ليكتشفوا أنه يستخدم كل ما يولِّد المحبة، بمعرضه في ديترويت (مهد صناعة السيارات الأميركية). وهو أسلوب ثبت علمياً أنه يؤثر في الإنسان سواء عبر المديح أو جاذبية الشكل والأناقة، أو البحث عن نقاط التشابه.
وقد اتبع القدماء الأسلوب ذاته، حيث كان أمير النثر العربي الجاحظ يستخدم الإطراء في مقدمات كتبه ورسائله. وكان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يبدأ إحدى أهم رسائله بعد البسملة بديباجة «... إلى هرقل عظيم الروم...». ليمنح المُخاطَب قدره قبل الدخول في صلب الرسالة. وحذا حذوه الخلفاء الأمويون والعباسيون. ومن أكثر مَن أظهر براعة في المديح، المتنبي، الذي تفنن في مدح سيف الدولة فنال مراده.
المفاجأة أن علم التأثير والإقناع يذهب إلى أعمق من ذلك. فقد تبين أن الجاذبية الشخصية تُحبِّب الناس إلينا، فقد كشف العلماء عن أن أحكاماً قضائية أميركية عدة حظي فيها الأشخاص الجذابون بمعاملة تفضيلية، إذ حصلوا على أحكام مخففة وفرص أكبر لتجنب السجن. ولذلك يقول كلارنس دارو إن «العمل الرئيسي للمحامي هو جعل المحلفين يحبون موكله».
واتضح أن الجذابين أكثر حظاً في أن يمد إليهم الآخرون يد المساعدة. وليس الأمر مرتبطاً بتلك الحسناء التي تطلب النجدة على قارعة الطريق بجذب الرجال، بل حتى النساء ينجذبن لا شعورياً للوسيم، حسب سيالديني.
وهناك بعدٌ آخر يولِّد المحبة، وهو اكتشاف جوانب «التشابه» بيننا وبين من نحاول التأثير فيه، مثل تطابق الأذواق في الملبس والمطعم والمنشط والمكره. ولذلك يلجأ من يخوضون مفاوضات عسيرة إلى ترطيب الأجواء بتلك الأحاديث. وكشف العلماء عن أن المرشحين السياسيين الجذابين يحصلون على أصوات أكثر. وتؤثر جاذبية الأشكال في قرارات التوظيف أكثر من المؤهلات!
المحبة (القبول) تتولد من اللطافة، والهدايا، والبعد عن التكلف، وتقبل الآخر بصدق. والإقناع في جوهره هو فن التأثير. ولا يعني الإقناع التخلي عن القيم الأخلاقية، بل هي مجرد تكنيكات مشروعة نستميل بها قلوب مَن نخاطب أو نخاصم.