سلطان السعد القحطاني
TT

المرفأ الذي لن يصل إليه لبنان... أبداً

استمع إلى المقالة

يُعلِّمك لبنان أن تتجاهل كل نظريات العلوم السياسية، ومبادئ العلاقات الدولية. تجد نفسك أمام بلد يسير عكس مصالحه، كأنه بلد انتحاري في عالم لا ينقصه الجنون. ولسوف يحيّر هذا البلد الصغير معظم منظِّري القرن الجديد، وهم يقرأون كيف تعامل مع محيطه، وحلفائه وأعدائه خلال العقود الأخيرة. لبنان أمام موت جديد، في قصة ليست جديدة.

وإذ تتذكر نهار المرفأ الذي غادر بر الأمان، فإنك تتذكر أنه لم يكن يوماً اعتياداً، فلقد اكتست المدينة بلون الحداد بعد أن نفث فيها النافثون رماد الأحقاد المكينة، وتتذكر هواءً يكاد يكون غير الهواء. كان الهواء إذا يمر في شوارع بيروت كأنما يعبر بين غابات من النايات والمزامير البهيجة؛ يمر بها حفيفاً، فيأتي ذلك الصوت الألِق، ليشعل مدينة الفرح فرحاً، وتصبح الحقول أحلاماً تمشي، كأنها جسد لروح آيبة.

كانت لنا أيامنا هناك في تلك المدينة البيضاء. لقد سرقتنا قبل أن نراها، وحين رأيناها خطفتنا، ومضت بنا إلى ذُرى الذواري الذارية، كي نتعلم أبجدية الروح والريحان، ونظرة النعيم. كم قرأنا وعشقنا، وكتبنا، وفكَّرنا. كانت في كل الصفحات التي قرأناها، ونحن صِبية نفكر كيف نسرق القمر، وبنت القمر، والمدينة الجميلة. وتسأل نفسك: أهو المكان الذي سمعتَ فيه فيروز، وبكيتَ سعيد عقل، وشربتَ جبران، ورأيتَ تويني، وقرأت النهار؟! حتماً لا. هذا محيط من الزمان والمكان لا أعرفه. بيروت أُمٌّ صبور، ولبنان جدٌّ وقور. مهما فعل أبناؤهما الأفاعيل فلا قلق، ولا خوف، بل نهر من الصبر طويل طويل. فالطعام على المائدة، والخبز هناك، والدفء والانتظار.

وإن كانت الأنفس البشرية ضيقة الأفق، فالأحداث تعلِّم الكثير. لقد كان ذلك النهار الرمادي درساً جديداً، في سلسلة من الدروس العمومية. لم تفرِّق تلك الموجات الكيميائية بين أحد وأحد، وهي تنفث ظلامها الرمادي على المدينة والبشر. كانت رسالة قدرية لكل ساكن مستكين فوق تلك الأرض، أن حالة اللاوعي يجب أن لا تستمر، وأن مستقبلاً قادماً لا بد أن يأتي، ولو على بقايا البقايا. حان وقت فتح الكتب، ومراجعة السطور، وكتابة فصول جديدة.

لقد تأخر لبنان عن ركب الحضارة كأنه نهر جفَّ. تتساءل: أين الذين فجَّروا مخيلة العالم العربي، وصنعوا أناقته، وكانوا مبتدأ الفعل والمنتهى في الجمال والتحضر. صعقة مدوية لعقلك وأنت تُسائله: كيف جفَّ النهر؟ لن ترى فيروز جديدة ولا جبران ولا الأخطل الصغير، ولا كتباً، ولا كتاتيب، وربما لا طيور بيضاء فوق المدينة القاتلة المقتولة.

ولكن يبقى الأمل. لعل بعضاً من الأمل لا يزال هناك، في عقول جيل جديد، رأى كيف أن المناكفة سرقت من البلد روحه، وأن الانقسام مرض العصر السياسي الذي لا منتصر فيه، وحتى المنتصر خاسر.

المسلسل السياسي اللبناني معروف مسبقاً، فبعد أشهر من الكر والفر والحوارات ستعود الوجوه القديمة إلى مكانها مرة أخرى. أولئك الذين أدخلوا لبنان إلى نفقه القديم عادوا، ولا تحتاج إلى أن تكون عبقرياً لتعرف أن الأخطاء لا تصلح نفسها على يد مرتكبي الأخطاء أنفسهم. الجمهورية في إجازة. كانت صرخة تويني تلك، عابرة للعصور، ودمغة لتاريخ طويل من الإخفاقات.

من يقول إن لبنان اغتيل في نهار المرفأ مخطئ، فلبنان مات حين اغتيل الحريري، ليس بسبب الرجل والمكان والمكانة والاسم والفعل، بل لأن لغة جديدة برزت على السطح، وتجاوزاً للحدود حدث، ولم يعد لبنان هو الأولوية، ومصالحه الخط الأحمر الذي تقف عنده الأحزاب وخلافاتها. طغت لغة السلاح، والقوة، ولم تعد بيروت محصنة، ضد العنف، والفوضى.

ستارة الختام تهبط عليك لتقول لك مواسيةً أحلامك: هذا وطن حزين، كان حرف العالم العربي، وحرفته، وبهجته، وجماله، وسحره، وغدَا الآن حزننا الذي نخجل منه.