في العقد الأخير، أصبح مفهوم الأمن الاقتصادي جزءاً أساسياً من الأمن الوطني، وهو ما يعكس التداخل المتزايد بين السياسات الاقتصادية والمخاوف الأمنية الأوسع، وفيما كان الأمن الوطني في السابق يركز بشكل رئيس على القدرات العسكرية والدفاعية، أصبحت الهشاشة الاقتصادية مصدر تهديد رئيس لاستقرار الدول وأمنها، وقد أظهرت أحداث مثل الحروب التجارية، والجائحة، والتوترات الجيوسياسية، خصوصاً بين الولايات المتحدة والصين، كيف يمكن أن تؤدي هشاشة سلاسل التوريد والاعتماد الاقتصادي إلى تهديد الأمن الوطني، ونتيجة لذلك، أعطت العديد من الحكومات الأولوية للأمن الاقتصادي بصفته عنصراً أساسياً في استراتيجياتها للأمن القومي.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، تطور مفهوم الأمن الاقتصادي استجابةً للفهم المتزايد بأن الاعتماد الاقتصادي، مثل الاعتماد على سلاسل التوريد أو التقنيات الأجنبية، يمكن أن يتم استغلاله في أوقات الأزمات، وقد تعزز هذا الوعي في العديد من الدول التي اكتشفت خلال عديد من الأحداث اعتمادها على دول - قد لا تكون حليفة بكل الأحوال - في العديد من السلع الاستراتيجية، ولذلك فقد بدأت العديد من الدول في التركيز على الأمن الاقتصادي، بل والإعلان عن استراتيجيات وطنية للأمن الاقتصادي، وقد أصبحت الاستثمارات العامة في الصناعات الحيوية أيضاً حجر الزاوية في استراتيجيات الأمن الاقتصادي، ولذلك فقد تزايدت الإعلانات عن الاستثمارات الحكومية الضخمة في قطاعات مثل الطاقة النظيفة والبنية التحتية والتقنيات المتقدمة لتقليل اعتمادها على الموردين الأجانب وتعزيز القدرات الإنتاجية المحلية.
كما اعتمدت العديد من الحكومات سياسات تهدف إلى إعادة توطين الصناعات، أو تعزيز الروابط التجارية مع الشركاء الموثوقين، ويسعى هذا الاتجاه، الذي يُعرف باسم «إعادة التوطين مع الحلفاء»، إلى تقليل الاعتماد على الدول المنافسة جيوسياسياً وضمان توفير أكثر أماناً للسلع الحيوية، هذه السياسة هي إحدى أبرز السياسات التي تبنتها الدول لحماية أمنها الاقتصادي، ويُقصد بهذه السياسة إعادة الإنتاج إلى السوق المحلية لضمان توفير آمن للسلع الحيوية، وقد ظهر هذا الأسلوب بشكل خاص في الولايات المتحدة، حيث أصدرت الحكومة تشريعات مهمة، مثل قانون أشباه الموصلات والعلوم، لتعزيز الإنتاج المحلي لأشباه الموصلات وتقليل الاعتماد على المصانع الأجنبية، ومصطلح «الحلفاء الموثوقين» يختلف تعريفه من دولة إلى أخرى، فتنظر إليه بعض الدول، حسب التوافق في القيم، وتنظر إليه دول أخرى ببراغماتية أكثر بحسب المصالح التجارية المتبادلة، وتختزله دول أخرى في تصنيف دول الشمال ودول الجنوب، وقد أدرج منتدى الاقتصاد العالمي عدة مناظير في سياسات الأمن الاقتصادي، من ضمنها البراغماتية والانفتاح، والتنويع بين الشركاء، وبناء الثقة بين الشركاء، والتركيز على الحوار، والبعد عن التوتر، والتعاون نحو الأهداف المشتركة.
وبالحديث عن المنافسة الجيوسياسية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن تلك المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، التي كانت عاملاً حاسماً في التفات العديد من الدول إلى تطوير سياساتها للأمن الاقتصادي، وشهد العالم سياساتٍ من كلتا الدولتين تهدف إلى التقليل من الاعتماد على منتجات وسلع الدولة الأخرى، كما شهد استثمارات مليارية في صناعات استراتيجية مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، وأدى هذا التحول إلى تبني موقف أكثر حمائية في السياسات الاقتصادية، حيث تحدد المخاوف الأمنية الوطنية القرارات المتعلقة بالتجارة والاستثمار. وقد أطلقت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مبادرات عديدة لتعزيز أمنهما الاقتصادي استجابة للتحديات المتزايدة، فجعلت إدارة الرئيس (بايدن) من الأمن الاقتصادي عنصراً مركزياً في استراتيجيتها للأمن الوطني، كما طور الاتحاد الأوروبي بداية هذا العام نهجاً شاملاً تجاه الأمن الاقتصادي، مدفوعاً جزئياً بأزمة الطاقة الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، ومركزاً على تعزيز القاعدة الاقتصادية والقدرة التنافسية للدول الأعضاء، والحماية من المخاطر، وتعزيز الشراكات مع مجموعة واسعة من الدول.
لقد خلق الربط بين الأمن القومي والأمن الاقتصادي حركة أشبه بالقومية الاقتصادية، فأصبحت سياسات الحماية الاقتصادية جزءاً أصيلاً في السياسات الاقتصادية، وفيما كانت العديد من الدول تنتقد الرئيس الأميركي السابق (ترمب) لاتباعه هذه السياسات، غدت العديد منها متبنّية لاستراتيجيات عميقة في هذا الشأن، بل وأصدرت لأجله الأوراق العلمية وجعلته أمراً في غاية المنطقية، وهي الجهات نفسها التي كانت في السابق تصوّر العولمة المطلَقة والانفتاح غير المحدود للأسواق العالمية بصفته حلاً لمشكلات العالم، صحيح أن الالتفات إلى الأمن الاقتصادي ضرورة لا يمكن إغفالها لكل الدول، إلا أن محوَرَة السياسات الاقتصادية حوله والانتقال من النقيض إلى النقيض بشأنه قد تضر بالاقتصادات المحلية وبالاقتصاد العالمي، وليتأكد القارئ أن هذه السياسات ليست مسلّمات، وإنما تتغير بفعل التغيرات العالمية، وما تطوّر السياسات الاقتصادية في العقد الأخير إلا مثال على ذلك.