تنفّس العالم الصعداء ببوادر انزياح الغمة الاقتصادية، بعد إعلان عدد من البنوك المركزية نيّتها خفض أسعار الفائدة، وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية تدخلات حكومية غير مسبوقة، مثل حِزم التحفيز، والدعم المالي للشركات، التي رغم ضرورتها، زادت من كمية الأموال المتداولة في الاقتصادات. هذا الفائض من السيولة سمح للشركات بدفع زيادات في الأسعار دون انخفاض فوري في الطلب؛ حيث استمر المستهلكون في الإنفاق باستخدام الأموال التي تلقوها من الحزم التحفيزية، أو تلك التي ادخروها خلال فترات الإغلاق. هذا الوضع خلق أرضية خصبة لما يُعرف بتضخم الجشع، فما هو هذا التضخم؟ وهل هو ظاهرة حقيقية أم موجة شعوبية؟ وكيف يمكن للحكومات التصدي له إذا كان ظاهرة حقيقية؟
يُستخدم تضخم الجشع لوصف حالة تستغل فيها الشركات الفترات التضخمية من خلال رفع أسعارها بشكل كبير، لا لتغطية التكاليف المتزايدة فحسب، بل لتعزيز هوامش أرباحها. ويشير هذا المصطلح إلى أن بعض الشركات تستغل غطاء التضخم العام الناتج عن عوامل، مثل زيادة أسعار الطاقة، وتعطيل سلاسل التوريد، والأحداث الجيوسياسية، لفرض زيادات في الأسعار لا يمكن تبريرها، واكتسب هذا المصطلح زخماً لوصف الاستغلال المزعوم من قِبل الشركات خلال الأوقات الاقتصادية الصعبة، خصوصاً بعد الجائحة والأزمات العالمية الأخرى.
تتعزز حجة وجود تضخم الجشع من خلال سلوكيات بعض الشركات التي اعترفت برفع الأسعار ببساطة لأنها تستطيع ذلك، فعلى سبيل المثال، صرح بعض مديري شركات السلع الاستهلاكية الكبرى بأنهم لا يرون حاجة لخفض الأسعار، حتى عندما تنخفض تكاليف المدخلات، لأنهم نجحوا في الحفاظ على هوامش أرباح أعلى من خلال الزيادات السعرية التي بدأوها خلال الفترة التضخمية.
وتشير الأدلة إلى وجود تضخم الجشع من خلال الزيادة الكبيرة في أرباح الشركات خلال فترات التضخم المرتفع، وقد أظهرت تقارير وتحليلات، أنه في المملكة المتحدة ارتفعت أرباح الشركات المدرجة بنسبة 30 في المائة خلال عام 2022، بفضل 11 في المائة فقط من الشركات التي زادت الأسعار بشكل استثنائي، وقد عُزي هذا الأمر إلى هيمنة هذه الشركات على أسواقها، ما مكّنها من تحديد الأسعار دون خوف كبير من فقدان العملاء للمنافسين، وفي الولايات المتحدة، لوحظت سلوكيات مشابهة، فوفقاً لتقرير صادر عن الاحتياطي الفيدرالي، ساهمت الأرباح الكبيرة للشركات في التضخم خلال السنة الأولى بعد الجائحة؛ حيث يُعتقد أن الاستغلال التجاري للشركات كان مسؤولاً عن جزء كبير من الزيادات السعرية العامة، وقد خضعت قطاعات مثل الطاقة، والمواد الغذائية، والسلع الاستهلاكية إلى تدقيق خاص؛ حيث أبلغت عن أرباح قياسية، بينما واجه المستهلكون ارتفاعاً في التكاليف.
من ناحية أخرى، يجادل المشككون في رواية تضخم الجشع بأن الزيادات السعرية الملحوظة هي أكثر انعكاساً للضغوطات والتعطيلات التي تسببت بها العوامل الخارجية بدلاً من الجشع التجاري، مشيرين إلى أن العديد من القطاعات واجهت ضغوطاً كبيرة على التكاليف، خصوصاً من ارتفاع أسعار الطاقة واختناقات سلسلة التوريد، ما جعل الزيادات في الأسعار ضرورية للصمود أمام الهجمات الاقتصادية أولاً، ومن ثم المحافظة على الربحية، وفي المملكة المتحدة، وبينما شهدت بعض القطاعات، مثل النفط والغاز، زيادات في الأرباح، شهدت العديد من الشركات غير المالية انخفاضاً في الأرباح بصفتها نسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يشير إلى أن القطاع التجاري ككل ليس مستفيداً بشكل موحد من التضخم.
وعلاوة على ذلك، يجادل بعض المحللين بأن إرجاع التضخم إلى الاستغلال التجاري وحده يُبسط ظاهرة اقتصادية معقدة، فالتضخم عادةً ما يكون مدفوعاً بمزيج من العوامل من جانب العرض (مثل النقص وزيادة تكاليف الإنتاج) والعوامل من جانب الطلب (مثل زيادة إنفاق المستهلكين)، والتركيز فقط على سلوك الشركات بوصفه سبباً رئيسياً يتجاهل الظروف الاقتصادية الكلية الأوسع التي تسهم في التضخم، كما أن فكرة تضخم الجشع تفترض وجود مستوى من التواطؤ أو القوة السوقية قد لا يكون منتشراً بالقدر الذي يراه البعض، ففي الأسواق التنافسية، عادة ما تؤدي الزيادات السعرية المفرطة إلى فقدان الحصة السوقية؛ حيث ينتقل المستهلكون إلى بدائل أرخص؛ لذلك، يجادل النقاد بأن وجود تضخم الجشع سيعني نقص المنافسة، وهو ما ليس الحال في جميع القطاعات.
وفيما كان تضخم الجشع بالفعل عاملاً مسهماً في استمرار التضخم، فهناك عدة تدابير سياسية يمكن أن تنظر فيها الحكومات لمعالجة المشكلة، مثل تعزيز إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار لمنع الشركات من استغلال قوتها السوقية لرفع الأسعار بشكل مفرط، ويتضمن ذلك التدقيق في عمليات الاندماج، والاستحواذ بشكل أكثر صرامة لضمان عدم تمكن أي شركة من الهيمنة على السوق، ووضع قواعد أكثر صرامة ضد الممارسات المنافية للمنافسة، كما اقترحت عدة حكومات فرض ضرائب على الأرباح المفاجئة خلال فترات الأزمات الاقتصادية لتكون منهجية ردع للشركات التي تستغل الأزمات لزيادة الأسعار، كذلك فإن الرقابة على الأسعار قد تؤدي دوراً مهماً، إلا أنه قد يكون وسيلة لمنع الشركات من رفع الأسعار بشكل مفرط على المنتجات الحيوية، مثل الطعام والطاقة.
إن تضخم الجشع هو مفهوم مثير للجدل، يُسلط الضوء على تعقيدات التضخم في الاقتصاد الحديث، ففي حين تشير أدلة إلى أن بعض الشركات قد استغلت الفترات التضخمية لتعزيز أرباحها، يجب أيضاً النظر في السياق الاقتصادي الأوسع. ويُبرز الجدل حول تضخم الجشع الحاجة إلى استجابات سياسية مدروسة، توازن بين الحاجة إلى حماية المستهلكين وواقعيات الديناميكيات السوقية، سواء من خلال التنظيم الصارم، أو الضرائب، أو حماية المستهلك، وتمتلك الحكومات هذه مجموعة من الأدوات لمعالجة الأضرار المحتملة للتضخم الجشع، وضمان بيئة اقتصادية أكثر عدلاً للجميع.