د. ياسر عبد العزيز
TT

«تيك توك» في قلب معركة النفوذ الدولي

استمع إلى المقالة

في الأسبوع الماضي، كانت أنظار العالم تتجه نحو الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ تتوالى الأخبار المفاجئة في هذا البلد، بخصوص المعركة المشتعلة في طريق المنافسة على الوصول لسُدَّة الرئاسة، وهي منافسة حافلة بالكثير من الوقائع المتسارعة والمثيرة للجدل.

من بين تلك الوقائع ما عرفناه عن قرار الرئيس جو بايدن الانسحاب من المنافسة، بعدما تكرّست الشكوك في قدرته الصحية والذهنية على خوض غمار السباق، فضلاً بالطبع عن حصول الرئيس السابق دونالد ترمب على بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري، قبل أن تقع محاولة فاشلة لاغتياله، ثم استعداد نائبة الرئيس كامالا هاريس للحصول على بطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي.

على الأرجح، فإن هاريس ستمضي قدماً في هذا السباق، وستكون لها حظوظ جيدة، بالنظر إلى نتائج استطلاعات الرأي المختلفة، التي تُظهر درجة من التوازن بينها وبين خصمها ترمب، وتُبقي لها ولأنصارها قدراً مُعتبراً من الأمل في إحراز النصر.

ومما فعلته هاريس في هذا الأسبوع، أنها حرصت على إنشاء حساب خاص لها على موقع «تيك توك»، الذي تمتلكه شركة «بايت دانس» الصينية، وبمجرد تنشيطها هذا الحساب، حظيت بأكثر من 400 ألف متابع، وحصلت على أكثر من 500 ألف إعجاب، خلال ساعتين فقط.

يا لها من بداية مثيرة لحساب هاريس على «تيك توك»، الذي أضحينا نعرف أنه أحد العوامل المؤثرة في مسار الانتخابات السياسية في الغرب والشرق، وأنه يحظى بمستخدمين يفوق عددهم 170 مليوناً في الولايات المتحدة وحدها. يعتمد «تيك توك» مسار عمل خاصاً ومميزاً، ويركز بوضوح على فئة عُمرية جُلها من الشباب واليافعين، ويتم عرض المحتوى عبره ببراعة شديدة، تستفيد من نزعات الجيل الأصغر سناً المتعلقة بمشاهدة الفيديوهات القصيرة والخاطفة ومُكثفة الدلالة، التي لا تخلو أيضاً من طرافة وبُعد عن الاعتيادية.

سيُمكن القول إن «تيك توك» هو المساهمة الصينية الأبرز في عالم «التواصل الاجتماعي». وبالنظر إلى أن الصين استكملت بناء «عزلتها الرقمية»، وتكوين «درعها الإنترنتية» الصلبة، لعزل مواطنيها عن مؤثرات المنصات الغربية الناشطة في هذا المجال، فإن «تيك توك» بات «سيفاً صينياً»، يؤدي «دوراً هجومياً» خالصاً في المعركة على الانتباه، والأولويات، والاتجاهات... أي معركة «كسب العقول والقلوب».

وبينما يتابع العالم بقلق واهتمام بالغَين مُجرَيات المنافسة الدولية الشرسة بين الولايات المتحدة على رأس المعسكر الغربي من جهة، وبين الصين من جهة أخرى، وفيما تمتد تلك المنافسة وتتوزع على مجالات النفوذ السياسي، والعسكرية، والطاقة، والتجارة، يظهر البعد الاتصالي لها جلياً في مجال وسائل «التواصل الاجتماعي».

لم يَعُد بالإمكان نفي قدرة وسائل «التواصل الاجتماعي» على التأثير في الرأي العام المحلي والعالمي، ولم يَعُد بوسع أحد التشكيك في أنها قادرة على تشكيل اتجاهات الجمهور حيال الأحزاب والمرشحين السياسيين في الانتخابات، بعدما أثبتت البحوث المُحكَمة دورها المُعتبر في هذا الإطار.

لذلك حرص الإطار السياسي الأميركي على بناء نسق لاحتواء تأثير «تيك توك»، عبر إصدار قرار قضائي بإلزام شركة «بايت دانس» المالكة له ببيع التطبيق في الولايات المتحدة، في موعد أقصاه 19 يناير (كانون الثاني) المقبل، أو حظره.

حاولت «بايت دانس» مقاومة ذلك الإجراء، من خلال الطعن أمام محكمة أميركية في صحة القرار، لكن الحكومة الأميركية سارعت بمطالبة المحكمة برفض طعون الشركة، بداعي أن خضوع التطبيق لشركة صينية «يشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي، بسبب قدرته على الوصول إلى بيانات شخصية واسعة للأميركيين، والتلاعب الخفي بالمحتوى».

على الأرجح، فإن تلك المعركة ستنتهي ببيع «تيك توك» في أميركا، أو حظره، لأن كلاً من المرشحَين الرئاسيَّين المُنتظرَين، وحزبَيهما، يتخذ موقفاً مناهضاً للتطبيق، وهو أمر لا يُغيِّر منه حرص كليهما على استخدامه في تعزيز حظوظه حتى اللحظة الأخيرة. تلك معركة من معارك «السيادة على الإنترنت»، وإحدى وقائع المنافسة الغربية - الصينية، ووجه من أوجه الصراع الدولي، الذي يُخاض على الأرض وفي الفضاء السيبراني، الذي باتت مواقع «التواصل الاجتماعي» إحدى وسائله.

تُحصِّن الصين نفسها بـ«عزلة رقمية»، و«سيادة إنترنتية» صلبة، فيما تجتهد لـ«غزو» الغرب بتطبيقها «الفعّال المؤثر». وفي المقابل، تجتهد الوسائط الغربية في تكريس سيطرتها على الرأي العام الدولي، عبر قواعد استخدام ظهرت انتقائيتها ومعاييرها المزدوجة واضحة، في مقاربة قضايا ساخنة؛ مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، وحرب غزة.

يتواصل هذا الصراع، فيما مناطق أخرى من العالم؛ سواءً في الشرق الأوسط، أو أميركا اللاتينية، أو أفريقيا، تشاهد فصوله، وتتابع تفاصيله، لكنها لا تنشغل بتحصين سيادتها، أو إبداع أدواتها، أو مراجعة ما تتكبده من تكاليف، وما يحوطها من مخاطر بسببه.