تشغل الأسئلة المعقدة أذهان السودانيين، ليست تلك المتعلقة، فقط، بـمتى تتوقف الحرب، لكنها تمتد لتسأل كيف تتوقف الحرب، وبأي نوع من الاتفاقات، وما مصير طرفي الحرب، هل سيعودان كأن شيئاً لم يحدث، يتقاسمان السلطة والثروة والنفوذ...؟ مَن المسؤول عن القتل والخراب الذي حدث، ولا يزال يحدث، من سيحاسب من تسببوا في كل الخراب، ومن فتحوا أبواب الهلاك...؟ كيف ومتى وبأي وسيلة سيحاسبون؟ ثم يأتي السؤال الأكبر... كيف العمل مع العسكريين، وبالذات «قوات الدعم السريع»... هل يمكن قبول وجودها بأي شكل من الأشكال...؟
هذه أسئلة مشروعة، ومن الطبيعي أن تتردد في أذهان الناس، لكنها تحتاج إلى بعض الترتيب وربما تقسيمها مراحل، رغم أنها جميعاً تعكس الهم العام.
الهم الكبير والأساسي هو كيف ومتى تتوقف الحرب، وكل الأسئلة الأخرى تتوقف عليه، فلا مجال للإجابة عنها إذا لم تتوقف الحرب؛ لأنها ستصبح أسئلة معلقة في الهواء وكأنها مجرد أطروحات فلسفية للتأمل. ومن الملاحظ من الكتابات الكثيرة المتناثرة في الميديا بأنواعها من كتّاب وناشطين وسودانيين مهتمين بالوضع العام أن البعض يربط موقفه من الحرب بالإجابة عن الأسئلة الأخرى المتعلقة بمرحلة ما بعد الحرب، فيقول إنه ضد الحرب ومع السلام، لكن... ثم يطرح الأسئلة الكثيرة المتعلقة بأوضاع ما بعد الحرب.
مشكلة هذه الكتابات والمواقف أنها تنتظر إجابات من طرف ما، مجهول أو معلوم، وكأنه يمسك بكل الخيوط في يديه، ويملك حق تقرير نهاية الحرب ونتائجها ومصير أطرافها. والحقيقة، أن هذا الطرف غير موجود، ومن ينتظرونه كمن ينتظرون «غودو» في رواية الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت. لا أحد يملك هذه الإجابات، بل ولا يجب أن يمتلكها أو يحتكرها أي طرف، وكل من يحمل أمانة القلم، لديه دور ومسؤولية في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة.
ومع أهمية هذه الأسئلة وضرورة أن تعمل عليها بعض الأطراف حتى تكون لدينا بعض الخطوط العامة للإجابات عندما يحين وقتها، فليس من المنطقي أن تكون شرطاً لتحديد الموقف من الحرب.
موقف انتظار الإجابات من طرف ما، يعني ببساطة انتشار حالة من التسليم والاتكالية والكسل ممن يفترض فيهم أن يلعبوا دوراً طليعياً في المجتمع، كما أنه بدرجة ما يعكس تراجعاً في درجة الإحساس بحجم المأساة التي تعيشها البلاد وشعبها، وكأن هؤلاء قد أعطوا ضميرهم الوطني والإنساني إجازة. الأرقام التي تصدرها المنظمات الإنسانية العالمية مخيفة ومفزعة بدرجة كبيرة، قُتل الآلاف من المدنيين، نزح الملايين من مناطق الحرب إلى ما يظنونها مناطق آمنة، ولجأت ملايين أخرى إلى دول الجوار وإلى أبعد منها. مقدرات البلاد الصناعية والاقتصادية في حالة دمار شامل، وتمتص ماكينة الحرب ما تبقى من موارد، الدولة بكاملها ومؤسساتها وشعبها تواجه مصيراً مجهولاً.
هذا الوضع يتطلب موقفاً وعملاً جماعياً عابراً للحدود السياسية والآيديولوجية ومتجاوزاً الاصطفافات القديمة، ليشكل اصطفافاً جديداً يوقف الحرب، ثم عندما تأتي مرحلة اختيار الأوضاع الجديدة فيما يتعلق بشكل وطريقة بناء الدولة بعد الحرب يمكن للاصطفافات أن تتغير ويقف كل طرف في المكان الذي يوافق قناعاته.
والحقيقة، أن اختزال صورة الحرب ومواقف الأطراف منها ودوافع هذه المواقف في طرفين جامدين، «لا للحرب» من جانب و«نعم للحرب» حتى لو أدت إلى تدمير الجميع، مع التفسيرات البسيطة التي تصل حتى السذاجة أحياناً، هي مواقف تبسيطية خاطئة، بدليل أن هذه المواقف لم تتشكل كلها منذ اليوم الأول، بالنسبة لكلتا الكتلتين.
صحيح كانت هناك قوى تسعى لإشعال الحرب، وكان هناك أناس وقوى سياسية ضد الحرب منذ اليوم الأول، لكنّ هاتين الكتلتين تشكلت وتكونت مواقفهما مع تطورات الحرب، وانضمت إلى كلتيهما مجموعات بعدما شاهدت نتائج الحرب؛ ولهذا تتفاوت وتتنوع الدوافع عند كل كتلة، وهناك حراك كبير يحدث داخل كل منهما.
تحتاج القوى السياسية والاجتماعية السودانية وجماعات الكتّاب والمثقفين، التي تدرك فظاعة الحرب ونتائجها، إلى أن تركز جهودها على وقف الحرب، وإلى أن تتلاقى هذه القوى حتى وإن كانت تختلف في تصورات ما بعد الحرب وتصطف تحت هذه اللافتة حتى تعبر الجسر إلى حيث الأمن والسلام، ثم لها بعد ذلك أن تختلف، وعلى الأقل إن توقفت الحرب فستجد وطناً تختلف عليه وفيه بدلاً من خلافات المنافي والمهاجر.