انقسم الفلاسفة والمفكرون حول القوى المحركة للتاريخ وانتقاله من مرحلة إلى أخرى تكون أكثر تقدماً لدى جماعة، وتأخذ الجنس البشري إلى الهاوية لدى جماعة أخرى. الليبراليون رأوا في المؤسسات الديمقراطية ما يستجيب لعمليات التغيير، ويرعاها في سلاسة فيكون للأغلبية قوة دفع تحدد ما إذا كانت كبيرة أو صغيرة. الماركسيون والاشتراكيون وجدوا آلة الانتقال في قوى مادية ممثلة في الإنتاج والتكنولوجيا المصاحبة تنعكس في علاقات طبقية تتصارع فيكون صراعها وقوداً دافعاً. الإصلاحيون بين هذا وذاك وجدوا في الاعتدال وتقاسم الحكمة نوعاً من حماية المجتمع البشري من الزلل، ودافعاً إلى ما هو معقول وعاقل. جميعهم على اختلاف وجهات النظر ابتعدوا عن مدرسة قديمة كانت ترى في الفرد المحرك للتاريخ، وما خرج عنها كان سيراً للأباطرة والجنرالات والحروب والنبوة والرسالات الإلهية. هذه المدرسة لم تكن مختفية حتى بين الغلاة في مدارس المادية الجدلية حتى أن فريدريك إنجلز ذكر في رسالة إلى كارل ماركس في آخر أيامهما أنهما بالغا في دور العامل الاقتصادي وتبعاته في التطور الإنساني، وفي الواقع أنه كان هناك أحياناً دور متميز للفرد؛ وأحياناً للصدفة. سبب ذكر كل هذه المقدمة الطويلة في مقال مساحته 650 كلمة هو أنه يبدو أن البشرية تقف الآن أمام منعطف مهم يبدو فيهما أن «الفرد» على وشك أن يقف على ناصية التاريخ ممثلاً في قائدين لدولة عظمى - الولايات المتحدة - غزيرة الإنتاج وكثيرة العسكر، وهما جوزيف بايدن - الرئيس الحالي - ودونالد ترمب - الرئيس السابق.
قبل أسبوع كتبت عن المناظرة الرئاسية الأميركية والمدى الذي مثلت فيه تعبيراً عن أزمة في الديمقراطية الأميركية؛ ولكن والآن قد انتهت المناظرة لكي تحدد الأكثر طولاً ورفعة في السياسة الأميركية، فإن المسألة لا يبدو أنها انتهت عند هذا المنعطف. فالواضح من الصورة أن العالم ليس واقعاً على قرن ثور، وإنما على شفاه رئيس أولاً فشل في المناظرة؛ لأنه لم يحصل على الجرعة الكافية من النوم بالإضافة إلى ملابسات أخرى؛ وثانياً أنه بعد المناظرة قسم الحزب الديمقراطي إلى ثلاثة أقسام: من يريدون استمراره على الطريق إلى الانتخابات على أمل أن الجمهور الأميركي سوف ينتخب مرشحهم على أي حال؛ ومن يريدون استبداله بمرشح آخر متميز يجري التصديق عليه في مؤتمر الحزب القادم؛ ومن يرون أنه لا توجد مشكلة من الأصل لأنه والحالة المؤسفة كذلك فإن نائب الرئيس - كامالا هاريس - هي القائد الطبيعي للحزب والدولة كما كان الحال في مناسبات سابقة استقال فيها الرئيس أو قرر عدم دخول الانتخابات، أو ببساطة توفي. على القرن الآخر للثور العالمي يوجد رئيس سابق - ترمب - ليس واقعاً فقط داخل دائرة من المحاكمات فيها الجنح والجنايات؛ وإنما أكثر من ذلك فإنه أعد للأمر عدته أثناء وجوده في السلطة عندما ضمن أغلبية 6 إلى 3 داخل المحكمة الدستورية العليا التي تحتكم لها باقي المحاكم الأميركية. سياسياً، فإن الرجل الفرد في التاريخ يحاول أن يكون متحدياً لما هو سائد ومعتاد ومستقر عليه؛ ولم تكن هناك صراحة أكبر من تلك التي قال بها ترمب إنه سوف يقوم بإزعاج النظام القائم، ولعل كلمة Disruptive التي استخدمها كثيراً أكبر من كلمة الإزعاج في اللغة العربية، وقد أخبرني الدكتور محمود محيي الدين أن أفضل الترجمات لها هي «المُربِكات» التي تهز الأمر الواقع، وهي باختصار تبعثر ما هو قائم وتدفعه دفعاً في اتجاهات مختلفة.
المؤكد أن الأمر يحتاج إلى الكثير من التفاصيل، والثابت فيها أن ترمب بات متفوقاً بشكل مستقر على بايدن بما مقداره ست نقاط في استطلاعات الرأي العام بعد أن كان التفوق نقطة واحدة قبل المناظرة؛ ولكن الثابت أيضاً أن ترمب يتفوق على كامالا هاريس بنحو نقطتين يضاف إليها أو تخصم واحدة أخرى. في الحالتين، فإن ترمب لم يعد متحكماً في الخطاب العام فقط، وإنما أكثر من ذلك أن تحكمه يأخذ الولايات المتحدة والعالم معها إلى مصير خطر. هذا الموقف الذي أفرز هذه الحالة من «الفردية» في السياق التاريخي الراهن يقود العالم إلى حالة من الذهول والفوضى والخلل الاقتصادي الذي تضاعف العولمة تأثيراته السلبية. في الشرق الأوسط، فإن هناك كثرة تلوم بايدن على ما قدمه من تأييد لنتنياهو؛ ولكنها تتجاهل بدافع من الكراهية ما يطلبه ترمب من نتنياهو أن ينهي المهمة، أي يبيد الشعب الفلسطيني. المؤكد أكثر أن ما بقي على الانتخابات الأميركية هو أربعة أشهر فقط!