د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

العمل اللائق والشعور بالانتماء

استمع إلى المقالة

لعلنا نتفق جميعاً في كون العلاقة بالعمل تحدد علاقة الفرد بكل شيء. أي أن الوضعية المهنية والاستقرار في العمل والتمتع بعمل لائق تحفظ الكرامة الإنسانية... كل هذا يمثل محدداً رئيسياً لعلاقة الفرد بنفسه ووطنه وأسرته والغير.

لهذا؛ فإن كل شخص يشعر بالدونية وبأنه مضطهد ومستغَل في العمل وأنه ينزف تعباً من أجل فتات خبز، لا يستطيع أن يكون في صحة نفسية تمكنه من التواصل بشكل مريح مع محيطه. وهذا ما يسمح لنا بوضع مبدأ أن الوضعية المهنية الجيدة وتوفر شروط العمل اللائق هما المحددان لكل شيء يتصل بالفرد. وفي هذا السياق من المهم التوقف عند أهمية العمل في تحديد علاقة الفرد بذاته، ويمكن القول إن العمل غير اللائق يجعل صاحبه في حالة توتر وخصومة مع نفسه وبالتالي مع الآخر ومحيطه الاجتماعي. ودليلنا في ذلك أن ضحايا العمل غير اللائق هم خزان إنساني يتم استغلالهم على نحو يجعلون منهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار أو لتوظيفها في أجندات ضد الإنسانية.

قد نتساءل، أيُّهما أكثر إشكالاً البطالة أم العمل غير اللائق؟

في الحقيقة، العاطل عن العمل بخاصة الذي يعتبر نفسه مهمشاً ومعطلاً يشعر بالمهانة، وهو شعور خطير جداً، بخاصة إذا ما طالت البطالة وأوصدت أمامه أبواب الشغل. في مقابل ذلك، لا يذهب عن بالنا أن المنتفع بعمل غير لائق لا يراعي حقوقه ولا يمكّنه من تلبية حاجياته بكرامة، هو أفضل حالاً بكثير عن العاطل عن العمل الذي يشعر بالمهانة وأحياناً بالاستعباد، وهما شعوران لا يختلفان من حيث المرارة وخلق الطاقة السلبية عن الشعور بعدم الاعتراف به.

باختصار، لا يمكن الادعاء للانخراط في مسار التنمية المستدامة التي تقوم أساساً على العمل كآلية لمحاربة الفقر والجوع والأمية، حيث واقع العمل لم يتجاوز معضلة العمل غير اللائق الذي لا يزال يهيمن بخاصة في القطاع الخاص.

طبعاً لا تفوتنا الإشارة إلى أن أهمية هذا الموضوع تصبح مضاعفة باعتبار أن الاتجاه العالمي اليوم هو تشجيع القطاع الخاص وتوفير مناخ جاذب للأعمال والاستثمار، وهو أمر جيد ويخفف من أعباء الدولة وأجهزتها ويجعلها أكثر تركيزاً على البنية التحتية والمجالات الثقيلة. ولكن في هذه الحالة، فإن المطلوب من كل دولة التوسع في مساحة القطاع الخاص وأن تؤدي دور المحامي للعاملين في القطاع الخاص ووضع تشريعات ضامنة لحمايتهم وتوفير فرص عمل لائق.

وفي هذا الإطار، نعتقد أن دولنا العربية والإسلامية إنما اليوم هي في حاجة في كثير منها إلى ثورة تشريعية في مجال الدفاع عن حقوق ضحايا الأجور الزهيدة الذين نحتاج إلى خدماتهم كثيراً والذين نقدّر خدماتهم مادياً بشكل زهيد.

هل يمكن اليوم الاستغناء عن الحراس وعمال النظافة؟

بالتأكيد الجميع سيجيب بلا. ولكن لماذا في مقابل الإجماع على ضروريتهم وعدم استغناء أي مؤسسة عنهم، نجد مرتباتهم غير لائقة ولا تحفظ لهم كرامة العيش؟ لماذا الحارس وعامل التنظيف والعاملون في الزراعة لا يستطيعون العيش بكرامة والحصول على المرتب الذي يمكنهم من السكن والأكل، والزواج، وتأسيس أسرة والترفيه؟

هناك مشكلة في تقدير هذه الأعمال. وإذا كنا فعلاً على وعي بأهمية النظافة والبيئة وتأثير ذلك على الصحة والرفاه وجودة الحياة فلا بد من تغيير قوانين الشغل ووضع تشريعات خاصة لفائدة هذه الفئات التي تؤمّن لنا كل هذه الخدمات، إضافة إلى الأمن الغذائي من خبر وزيتون وخضراوات وفواكه التي تقوم مزارعات فقيرات من ضحايا العمل بجنيها من الأرض لتأمينها للمجتمع.

لا يمكن ترك ضحايا العمل غير اللائق في براثن القطاع الخاص من دون تعزيز مناخات الأعمال والاستثمار بتشريعات ضامنة لحقوق المهن التي تعاني سوء تقدير.

ومن المهم أيضاً أن نفهم أن توفير مقومات العمل اللائق هي ضمانة لأصحاب الأعمال والمؤسسات الخاصة؛ لأن العامل الذي يكون متصالحاً مع عمله فإنه آلياً سيكون محل تعويل عليه وثقة وجودة في العمل.

فالعمل اللائق لا ينتج إلا ما يشبهه من الممارسات والأداء، وبخاصة الشعور بالانتماء. والإنسان كائن ميال لكل ما هو لائق وحافظ لشيء كبير وأساسي يسمى: الكرامة.

لذلك؛ فإن النضال في سبيل العمل اللائق هو نضال من أجل السلم الأهلي وأيضاً السلام العالمي وإحباط مخططات أعداء الحياة الذين لا يستثمرون إلا في العمل غير اللائق وضحاياه.