يوم الأربعاء الماضي، بدا أن الستار قد أُسدل على حكاية أحد أكبر «مُسرِّبي المعلومات» في العالم... أو جوليان أسانج الذي ملأ الدنيا وشغل الناس سنوات طوال، على إيقاع التسريبات التي أطلقها عبر موقعه الشهير «ويكيليكس»، ليُطوي صفحة مفعمة بالإثارة من صفحات الإعلام الدولي، بعدما تم الإفراج عنه من محكمة أميركية، بموجب اتفاق أقر فيه بـ«الذنب».
لقد أطلق أسانج موقعه الإلكتروني (ويكيليكس) في عام 2006، زاعماً أنه يعرض مادة حصل عليها نشطاء وصحافيون من أكثر من دولة، ومعلناً أن بحوزته ملايين الوثائق المهمة والخطيرة.
بعدها بدأ العالم يتابع دراما أسانج التي صنعها بتسريباته الخطيرة والانتقائية، ومن خلالها أمكننا أن نطلع على ما قاله سفراء ووزراء وقادة دول في قاعات مُحكمة الغلق، أو في جلسات ودية لتناول الشاي، أو عبر الهواتف.
استطاع الجمهور العالمي بسبب هذا الموقع أن يقرأ نصوصاً ووثائق، وتفريغاً لكثير من المكالمات الهاتفية، وأن يحصل على رسائل مُرسَلة من بعثات دبلوماسية إلى الحكومات التي تتبعها، مما كشف كثيراً من وقائع الفساد التي طالت رؤساء دول وحكومات ومسؤولين رفيعي المستوى، وطيفاً عريضاً من المؤامرات السياسية، فضلاً عن عشرات الأحاديث التي تمت بين سياسيين بارزين، والتي يمكن وصفها بأنها -ببساطة- «نميمة سياسية»، تعكس مواقف حادة ومتباينة، ولم تكن معروفة في العلن. لم يكن أسانج نجم عصر التسريبات الوحيد؛ بل انضم إليه آخرون؛ مثل إدوارد سنودن الذي استطاع عبر تسريباته أن يدفع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إلى الاعتراف، في عام 2013، بأن حكومته أجرت عمليات تنصت ومراقبة بحق أشخاص، ومسؤولين، وأعضاء في الكونغرس، وأيضاً بحق بعثات أجنبية، وحكومات، وأجهزة أمنية تابعة لدول أخرى، بعضها من الدول الحليفة، مثل ألمانيا وفرنسا.
ولدينا بطل آخر من أبطال التسريبات التي هزت العالم، وهو بطل قصة «وثائق بنما»؛ إذ أكد باستيان أوبرماير، الصحافي الذي يعمل بصحيفة «زودويتشه تسايتونغ» الألمانية، في 2016، أن شخصاً يطلق على نفسه اسم «جون دو» اتصل به عارضاً عليه إعطاءه معلومات غاية في الأهمية بغرض نشرها. وقد نقلت «واشنطن بوست» عن أوبرماير، قوله: «كنت في مناوبة عمل في الصحيفة، حين وردني اتصال من شخص مجهول، باغتني قائلاً: (آلو... أنا جون دو... هل تريدون معلومات؟)».
في حال كانت رواية أوبرماير صحيحة، فقد بادر شخص ما بالاتصال بالصحيفة، عارضاً تقديم 11.5 مليون وثيقة، من الوثائق المحفوظة في أرشيف معلومات شركة المحاماة البنمية «موساك فونسيكا»، وهي وثائق تكشف وقائع فساد وشبهات تتعلق بآلاف من أهم السياسيين ورجال الأعمال، في عدد كبير من دول العالم، قبل أن يتم نقلها إلى الصحيفة، لتبدأ في إجراءات نشرها.
لقد تبرع هؤلاء «الناشطون» بنشر ملايين الوثائق والأسرار الحساسة والمُصنفة سرية، قبل أن يتعرض معظمهم لملاحقات ذات طابع قانوني، أفضت بهم في معظم الأحيان إلى التوقيف والسجن. وبموازاة الدهشة والاهتمام والإثارة التي واكبت كل تسريب، لم تتوقف الأسئلة عن طبيعة المُسرِّبين، وأهدافهم، والوسائل التي استطاعوا من خلالها اكتشاف «مناجم المعلومات» النفيسة.
يستبعد بعض النقاد أن يتم التعاطي مع هؤلاء المُسرِّبين بوصفهم صحافيين، بما يُمكِّنهم من التمتع بما تقرره القوانين والعهود الدولية من حماية واجبة لأنشطتهم المتعلقة بنشر الحقائق ذات الصلة بأولويات الجمهور والمصالح العامة. ويقدم هؤلاء النقاد ذرائع وجيهة لذلك؛ أهمها أن الصحافة يجب أن تقدم معلومات متوازنة ومُعالَجة في إطار قصص مكتملة، وليست تسريبات تستهدف إدانة أشخاص أو جهات بعينها بشكل انتقائي.
وفي المقابل، يعتقد هؤلاء المُسرِّبون، وأنصارهم أنهم جديرون بالحماية، بداعي أنهم «يكشفون الفساد، ويتَحدُّون جبروت السلطات، ويستخدمون حق حرية الرأي والتعبير». لكن تلك الذرائع لا تبدو مقنعة أحياناً، في ظل ما تكشف عن انتقائية معظم تلك التسريبات، وخدمتها لمصالح سياسية محددة.
بالنسبة إلينا -بوصفنا صحافيين- يجدر بنا أن نرحب بالتسريبات، ما دُمنا سنعالجها صحافياً، وسنتأكد أنها لا تخرق قاعدة مهنية أو قانوناً نافذاً، وسنقدمها من خلال قصص متوازنة مكتملة، وسنتيح للأطراف المتضررة من نشرها أن تدلي بآرائها وتشرح مواقفها.
تعكس ظاهرة التسريبات تطوراً في الصراعات السياسية، بمواكبة التقدم المذهل في بيئة المعلومات والاتصالات، وهو تطور يجب أن تستفيد منه الصحافة؛ لكن لتلك الاستفادة شروطاً حاكمة لا يجب تجاهلها. أما أسانج، فقد دخل إلى خشبة المسرح العالمي من باب السياسة، بوصفه «بطل معلومات»، وخرج من محبسه من بابها أيضاً؛ لكن بوصفه مقراً بـ«ذنبه».