د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

حتميَّة الاستفادة من التاريخ

استمع إلى المقالة

التاريخ هو أعظم شاهد للبشرية منذ وجودهم على الكرة الأرضية، فهو يحمل قصة الإنسان ورحلته عبر الزمان، وتحمل الحضارة ما أنجزه التاريخ على امتداد هذه الرحلة؛ فالحضارة تتضمّن مفهوماً تاريخياً، والحضارة والتاريخ يضمّان معنى واحداً؛ لذا فإن التاريخ هو كل الأشياء التي حدثت في الماضي، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم دينية... بينما الحضارة هي تلك الأشياء التي بقيت من التاريخ مادية كانت أو غير مادية، وهي النتاج الفكري والثقافي والمادي الذي ينتقل تلقائياً عبر الأجيال.

إن التاريخ هو الأصل والأساس الذي يُبنى عليه، والهدف الأسمى من دراسة التاريخ هو أخذ العبر من الماضي لفهم الحاضر، واستشراف المستقبل ليصبح العنصر الأهم في صنع الأمم التي وجب على مجتمعاتها ومؤسساتها امتلاك المعرفة التامة والوعي الكامل للتاريخ من أجل توظيفه في رسم مستقبل الشعوب والأوطان، كما وجب عليهم فهم تاريخهم، وحُسن قراءته للتعلّم من الماضي؛ فدراسة التاريخ تجعل الإنسان عامة والطالب خاصة أكثر وعياً لثقافته ولثقافات المختلفة الأخرى، وذلك من خلال الاطلاع عليها؛ حتى يصبح باستطاعته فهم تصرفات الشعوب وتقبّلها بشكل أفضل؛ فالتاريخ يساعد في التنوّع الثقافي والديني والاجتماعي... ليعمل على تعزيز التسامح والاحترام المتبادل بين الشعوب. وأهمية التاريخ تكمن في بناء الهوية الوطنية والثقافية لدى الأفراد والمجتمع من خلال معرفة كيفية تطور القيم والعادات على مرّ العصور والحفاظ على تراثهم؛ فأمة دون تاريخ - وفي الحقيقة ليست هناك أمة دون تاريخ لها – لا قيمة ولا وزن لها بين الأمم؛ إذ كيف يمكن أن يكون لها حاضر ولا يوجد لها ماضٍ؟ فإما أن هناك فترة لم تُدوّن ملامحها، وإما أن هناك طمساً أو تزويراً للحقائق، إما لأن تاريخهم غير مشرّف وإما لتضليل الحق كما يحدث لدينا في لبنان؛ حيث لم يصدر حتى يومنا هذا كتاب تاريخٍ مُعتمد جامع وموثوق به.

بدأ التأريخ في بلاد ما بين النهرين (العراق) التي ظهرت فيها أقدم ملامح الحضارة بدءاً باختراع الكتابة في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، وانتهاءً بغزو الإسكندر لبابل عام 331 ق.م.، ويمتد التاريخ المسجّل لما يقرب من 5000 عام بدءاً من الكتابات المسمارية السومرية التي تُعد من بين الكتابات المتماسكة في التاريخ من نحو 2600 ق.م، وشمل التاريخ القديم جميع القارات التي سكنها البشر في الفترة من 3000 ق.م – 500 م. وفي العالم القديم أيضاً أُنتجت الحوليات الزمنية أو التأريخ الحولي (وهي مؤلفات تاريخية سجلت الوقائع والأحداث بترتيب زمني دقيق حسب السنوات أو الأحداث والوقائع التاريخية مرتبة بحسب السنين)، وهو منهج ابتكره على الأرجح مؤرخو الإسلام، وأقدم من صنف فيه الهيثم بن عدي (207 هـ) ومحمد بن عمر الواقدي (207 هـ) (ويكيبيديا)، وكان بخصوص حضارات مثل مصر القديمة الفرعونية وبلاد الرافدين. وقد بدأ التأريخ لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث يُعد «تاريخ هيرودوتس» أول عمل تأريخ نقدي كتبه باللهجة الأيونية للغة الإغريقية مؤسس التأريخ الإغريقي المؤرخ هيرودوت (484 - 425 ق.م.) الذي صار يُعرف بـ«أبي التاريخ». بينما ضمّ التأريخ القروسطية خلال القرون الوسطى سجلات في أوروبا، والتأريخ الإسلامي على يد المؤرخين المسلمين، والكتابات الكورية واليابانية الشبيهة في صياغتها بالنماذج الصينية الشائعة في ذلك الوقت. كما أنه في القرن الثامن عشر، وخلال عصر الأنوار تشكّل التاريخ، وتطوّر في العالم الغربي من قِبَل مؤرّخين كبار كالفرنسي فرنسوا ماري أروويه - فولتير - (1694–1778م) والأسكوتلندي ديفيد هيوم (1711 - 1776م) وغيرهما من الذين وضعوا الأسس في التأريخ في صيغته المعاصرة. أما منذ القرن التاسع عشر فقد بدأت تظهر مؤلفات غير دقيقة لمؤرخين يتأثرون بولائهم لأشخاص أو أحزاب أو دول أو غيرها، وما زالت موضوعاً للنقاش، على سبيل المثال، كتاب التاريخ في لبنان. لكن الشيء بالشيء يُذكر، ويبقى السؤال: هل استفاد زعماؤنا وسياسيونا من التاريخ يا تُرى؟! هل تعلّموا من أخطاء الماضي كي يتفادوها؟ فهم ما زالوا يقعون في المشكلات والأخطاء نفسها التي كانت سبباً أدّى إلى وجود نزاعات وصراعات وحروب منذ عام 1860، حتى يومنا هذا.