محاولة استغلال الحج سياسياً عادة متكررة، راكمت السلطات السعودية ما يكفي من الخبرات لمواجهتها، لكنني أعتقد أن التحدي هذا العام كان مختلفاً، ومتخابثاً، خلف الشعارات المعلنة. سمعنا تلويحاً بمظاهرات البراءة، نعم، وشهدنا محاولات مبتورة لاستغلال الصراع في غزة، نعم، لكن الغرض الأساسي كان استهداف مجمل التوجه السعودي الحالي، وإعادة المملكة إلى مقايضة وهمية فُرِضت عليها طوال العقود السابقة: إما النفوذ المعنوي الديني بوصفك أرض الحرمين، وإما النفوذ المجتمعي الناتج من إحياء الثقافة والفنون والسياحة. لا يمكنك الجمع بين الموارد الطبيعية، والموارد المكتسبة. وكونك أرض الحرمين يحتم عليك أن تكوني حلقة الوصل الزمنية بين المجتمع العصري ومجتمع عصر الرسالة.
حاولت القوى المضادة للانفتاح السعودي الوصول إلى هدفها باستخدام الخطاب الديني المتشدد، لكن الاحتفاء المجتمعي، لا سيما من الأجيال السعودية الشابة، ومشاركتها بكثافة في كل تطور حدث، أحبط المحاولة. فعَدلَت التنظيمات تكتيكاتها. وأعادت في موسم الحج المنصرم صياغة رسالة إعلامية وشعبية غرضها إحياء المقايضة الوهمية نفسها: كيف تسمح السعودية بتأشيرات مفتوحة للسياحة، بينما تسمح بتأشيرات محدودة العدد للحج؟ أليس الحج أولى من السياحة؟ مع بعض التوابل على الصياغة، تستخدم ثنائيات التحريض الديني المعتادة ومفرداته.
لن يتعثر عاقل في فهم الفارق بين محدودية استيعاب الحج، المقتصر على الحدود الجغرافية للمشاعر الإسلامية المقدسة، وسعة استيعاب السياحة الممتدة إلى عموم مساحة المملكة. ولن يتعثر في فهم الفارق بين الاحتياج اللوجيستي الكبير لكل فرد من الحجيج، خصوصاً في الصيف، والاحتياج اللوجيستي البسيط لزائر يعتمد على نفسه اعتماداً مطلقاً. في 2022، زادت أعداد زائري السعودية نحو أربعة أضعاف عن العام السابق، وهي في ازدياد مستمر حتى الآن. ومن الطبيعي أن تتعامل الإجراءات الإدارية مع هذه التغيرات؛ بتقسيم الزيارات إلى مسارات منفصلة يمكنها من توزيع الجهد مع كل منها حسب احتياجاته. لكن هذا بالضبط المدخل الذي حاولت التنظيمات استغلاله.
الأكيد أنها قفزت على الظاهرة، ومنحتها شعارات تبريرية اهتمت كالعادة بغرض التنظيمات، وأغفلت كالعادة سلامة المواطنين؛ إذ كان من المفترض ممن يخشى على سلامة الحجاج وأمنهم، وعلى سلامة الحج وأمنه، أن يدعو الناس إلى التزام الإجراءات التنظيمية، والتعاون مع السلطات القائمة عليها، وليس تشجيع السلوك العكسي أملاً في انهيارها.
استخدام انفتاح السعودية، وتشجيعها للسياحة، لخلق طلب تعجيزي على موسم الحج سلوك مستهتر، دفع ثمنه للأسف مئات من الضحايا. هذا حاضر المسألة. ويجب على السلطات في مختلف الدول التحقيق في المتسبب فيها. لكن المسألة لها جانب مستقبلي، هو اختبار عزم السعودية على المضي قدماً في رؤيتها. بالنظر إلى تجربة السنوات الماضية نعرف جميعاً الإجابة.
السعودية حالياً في المركز السادس عشر عالمياً من حيث تصنيف الثقل السياسي، يضعها هذا في المركز التالي مباشرة لتركيا في منطقتنا. تخيل هذا التصنيف مع كون السعودية ليست عضواً في «الناتو»، ولا وجهة سياحية على أطراف أوروبا، ولا تصدر دراما إلى مائة دولة حول العالم، ولا تملك ميليشيات ولا عناصر محلية داعمة تمنحها نفوذاً في عواصم أخرى. لا شك أن الوضع سيختلف كثيراً حين توسع السعودية نفوذها في مجال الطاقة باتفاق نووي، وفي مجال السياحة بمشروعاتها على البحر الأحمر، وفي المجال الثقافي بمواسمها في قلب الحضر، وباستثماراتها في الإنتاج الدرامي والفني، واستثماراتها الرياضية داخل المملكة وخارجها، ودخولها شريكاً في الصناعات المستقبلية، كما هو جارٍ الآن.
عرقلة التوجه السعودي غرض سياسي بحت، يندرج تحت قاعدة مستديمة للتنظيمات: تجريد الآخرين من مواطن القوة، والاحتفاظ بها لأنفسنا. تنظيمات الإسلام السياسي تعتبر عضوية تركيا في «الناتو»، وعلاقتها الطبيعية مع إسرائيل، وانفتاحها السياحي، إجراءات حكيمة من مسؤول رشيد. بينما تعارض التوجه نفسه في دول المنطقة. تغير فقط الحجة من السعودية إلى مصر إلى الإمارات.
هذه المنطقة على عتبة تغيرات كبرى. الدول التي اختارت طريق التنمية أمامها فرصة عظيمة لرخاء مبني على التعاون والسلام. والدول التي اختارت طريق الدمار تنتظر الفناء أو سعلة الإفاقة من الاختناق، ولا يعزيها حتى ذلك الحين إلا شد الآخرين معها إلى أسفل. هذا هو السياق الذي ينبغي أن نضع فيه كل حدث نراه.