يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

السعودية وخدمة ضيوف الرحمن

استمع إلى المقالة

شرفُ خدمة الحجيج جزءٌ من الهوية الدينية والسياسية لهذه البلاد التي كانت منذ لحظة توحيدِها وإلى يوم أمس تمارس هذا الشرف العظيم، مستلهمة المُثل العليا لهذه الفريضة منذ فجر التاريخ؛ حيث البيت الحرام «مثابة للناس وأمناً».

في لقاء قبل عقود، مع نخبة من علماء السعودية في الجامعة الإسلامية بالمدينة، قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي كان أميراً للرياض وقتذاك، بأن القيادة السعودية تولي موسمَ الحج الاهتمام؛ لأنه شرف ومنحة إلهية أنْ مكَّنَها من خدمة ضيوف الرحمن، وهو الذي أكده ولي العهد في حديثه أمس، بعد نجاح تصعيد يوم عرفة، وبمناسبة عيد الأضحى، أمام جمع من القطاعات.

في النظام الأساسي للحُكم بالسعودية، المادة 34، ما نصه: «تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكِّن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة»، وهي مادة تختزل هذه المسيرة الحافلة من العلاقة بين السعوديين والحج. ومع ذلك فإن ما يحدث كل سنة من نماذج ومواقف تلتقطها عدسات الكاميرا بعفوية حول هذه العلاقة، يتجاوز التكليف إلى التشريف، والواجب إلى الخدمة المعجونة بالحب والإحساس بالفخر والهوية، ويمكن التأكيد على ذلك أيضاً مع التطور الهائل الذي عاشه قطاع المناسك، بعد إدماجه في «رؤية 2030»، وإفراد برنامج بموارد هائلة تحت اسم «برنامج ضيوف الرحمن»، وكنت قريباً من تفاصيله المثيرة للإعجاب والمذهلة، حين عملت لسنوات في هيئة تطوير المدينة المنورة، ووقفت على كثير من المبادرات النوعية التي تسعى لتحويل رحلة زيارة الحرمين إلى تجربة استثنائية، وفق أعلى المعايير المستقاة من تجربة الزائر نفسه، بالدمج بين البيانات وتحليلها والتكنولوجيا، واستلهام وتطوير نماذج عالمية في مجالات عديدة، بهدف تطوير نموذج فريد يراعي خصوصية التجربة الروحية. وأنا أتابع بالأمس مشهد الحجيج وسلاسة سيرهم، متوحدين ومحاطين بالأعداد الهائلة من العاملين في خدمتهم، من كل القطاعات الأمنية والحكومية والتطوعية، شعرت بالفخر، فقد بات التفوقُ السعودي في إدارة الحشود نموذجاً محفزاً لكل دول العالم، وهو ما يستحق الدراسة لتاريخ السعوديين مع إدارة الحج منذ اللحظات المبكرة، والكثير من التوثيق والقراءة المنهجية.

«أمن الحج خطٌّ أحمر» كان شعاراً متجدداً عبر الزمن في إدارة الحج، وهو ما يثبت كل موسم أن ذلك لمصلحة الحجاج أولاً وأخيراً، كما أنه لا بد من تصريح للقيام بهذه الفريضة، وكل هذا من أجل سلامة الحجاج وأمنهم، استناداً للقيم الأساسية لشعيرة العمر؛ حيث الحج مفروض مرة في العمر.

هذا التحذير لا يستهدف دولة بعينها، فالخطاب موجهٌ إلى جميع الحجاج من الداخل والخارج، وهو مستند إلى أصل عظيم من أصول الإسلام، في مقاربته لآداب وواجبات هذه الشعيرة، والركن الخامس من أركان الإسلام، والوارد في القرآن الكريم بصريح العبارة: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج». وقد ورد في التفاسير المبكرة بالمأثور عن عبد الله بن عمر، توضيح لمعنى الجدال الوارد في الآية الكريمة بالخصومات، وهو أمر أقل بكثير في الدلالة على التوحد الزماني والمكاني والروحي الذي تتطلبه هذه العبادة. فالحج والمشاعر أكثر تجسيداً للوحدة والتجانس ونبذ التمايز والاختلاف على كل المستويات، من توحيد اللباس، إلى الأداء الجماعي المتجانس، إلى التركيز على الجانب الروحي والنسك، وذوبان الفروقات في وحدة وتوحيد لله تعالى، ما يعكس أهم خصائص المقاصد الكبرى للحج.

مقاربة السعودية لملف الحج تتجاوز الآن قرناً من الزمان، وهو حدث يستحق كثيراً من الدراسات التاريخية الجادة والمؤتمرات التي يجب أن نروي فيها سرديتنا الخاصة الموثقة، منعاً لكثير من اللغط المتكرر والمجافي للحقيقة، والمعتمد على كثير من الأوهام والروايات التضليلية المتعاقبة، منذ لحظة التوحيد وما قبلها؛ خصوصاً المؤتمر الإسلامي التاريخي الذي دعا له الملك المؤسس، وتجربة إدارة أول موسم حج عام 1344هـ، والخطابات التي أرسلها يؤكد فيها ضمانه الشخصي لأمن الحج، وتعيينه ابنَه (الملك فيصل)، مسؤولاً عن سلامة الحجيج في 27/2/1952، وبلغ عدد الحجيج في تلك السنة أكثر من 100 ألف، وقد ضمَّن الرحالة البريطاني إلدون روتر مناسك حج ذلك العام، في كتابه «المدن المقدسة». وتوالت البرقيات السرية من القنصليات الأجنبية واصفة حج تلك السنة بالناجح، مثنية على التجربة السعودية الناشئة.