لا يجهل رضوان السيد في دراسته الافتتاحية «ثقافة الاستشراق ومصائره وعلاقات الشرق بالغرب» أهمية تقرير محمد البَهِيّ «المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام» في تاريخ نقد الإسلاميين للاستشراق. فمعرفةً منه بأهميته أعاد نشره ضمن ملف النصوص التي نقدت الاستشراق في العدد الأول من عددي مجلة «الفكر العربي» اللذين خصصهما في عام 1983 لموضوع الاستشراق حين كان رئيس تحريرها. ولا أعلم لماذا حاد في تلك الدراسة عن اتخاذ تقرير البَهِيّ مثالاً لإيضاح ملاحظته النقدية على نقد الإسلاميين للاستشراق. ولوصل هذا التقرير بأول محاولة لربط المستشرقين بالمبشرين على أساس أنهم مقدمة أو واجهة للتبشير، وهي التي قام بها حسين الهراوي في مطلع الثلاثينات الميلادية، أذكر أن البَهِيّ في تعريفه بفِنْسِنك في جدول رقم 2 من التقرير «الخَطِرون من المستشرقين»، أورد قصة الهرَّاوي مع فِنْسِنك، وأحال إلى كتابه «المستشرقون والإسلام»، مما يعني اطِّلاعه على هذا الكتاب. والهراوي –كما ذكرنا في المقال السابق– هو صاحب مقولة إن «المستشرقين هم طلائع المبشرين»!
لمصطفى السباعي صلةٌ بتقرير البَهِيّ. ولإيضاح صلة هذا المفكر الإسلامي، والسياسي والبرلماني السوري، والمراقب العام لـ«الإخوان» المسلمين في سوريا من عام 1944 إلى عام وفاته، عام 1964، في هذا التقرير، سأورد قبلها معلومات عن تاريخه مع نقد الاستشراق.
أول إسلامي في العالم العربي تناول الاستشراق بالنقد وبالرد كان مصطفى السباعي. تناوله في الفصل السادس من رسالته التي تَقدَّم بها لنَيلِ الشَّهادةِ «العالميةِ» في الفقهِ والأصولِ وتاريخِ التشريعِ الإسلاميِّ من كلية الشريعة في الجامع الأزهر عام 1949، وموضوعها كان «السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي».
أنجزَ هذه الرسالة في 4 مايو «أيار» 1949، وناقشها في 12 أبريل «نيسان» 1950.
تناول الاستشراق بالنقد والرد في الفصل السادس من رسالته، من خلال نقد آراء غولد تسيهر في تدوين الحديث النبوي. وقد اعتمد في معرفة آراء غولد تسيهر في تدوين الحديث النبوي على كتابين من كتبه، هما: «دراسات إسلامية» و«العقيدة والشريعة في الإسلام».
كتابه الأول، كان كتاب علي حسن عبد القادر في مادة تاريخ التشريع الإسلامي في كلية الشريعة بالأزهر عام 1939. يلقي محاضراته في هذه المادة عليهم، هو وزملاؤه في ذلك العام، بواسطة القراءة في كتاب «دراسات إسلامية»، مترجماً لهم ما يقرأه بالألمانية إلى العربية. وكانوا يدوِّنون ما قرأه لهم مترجماً من هذا الكتاب.
الطريق الآخَر في تعرُّف السباعي على ما قاله غولد تسيهر في كتابه «دراسات إسلامية»، هو كتاب علي حسن عبد القادر «نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي» الذي صدر عام 1944. ففي هذا الكتاب أورد علي حسن عبد القادر ملخصاً لآراء غولد تسيهر في تاريخ الحديث النبوي. كذلك رجع إلى ما نقله أحمد أمين عن غولد تسيهر في كتابيه: «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام» نقلاً مباشراً ونقلاً غير مباشر. أما كتاب غولد تسيهر «العقيدة والشريعة في الإسلام»، فلقد قرأه كاملاً، لأن هذا الكتاب كان قد ترجمه إلى العربية محمد يوسف موسى وعبد العزيز عبد الحق وعلي حسن عبد القادر عام 1946. هؤلاء المترجمون الثلاثة أزاهرة، تلقوا تعليمهم العالي في أوروبا، وكانوا يدرِّسون في الجامع الأزهر. الأول يُدرِّسُ في كلية أصول الدين، والثاني والثالث يُدرِّسَان في كلية الشريعة. وكان الثالث قد انتقل من الجامع الأزهر إلى المركز الثقافي الإسلامي بلندن، ليكون مديراً له مع أول إنشاء له عام 1944.
في الفصل السابع خصَّ أحمد أمين بالنقد وبالرد على آرائه في الحديث النبوي التي قالها في كتابيه اللذين سبق ذكرهما، واتَّهمه بأنه مزج السم بالدسم، وخلط الحق بالباطل! وتخلَّلَ هَذَا الفَصْلَ تَعَرُّضٌ لغولد تسيهر بالنقد والرد بوصفه أنه هو الأصل في آراء أحمد أمين في رواية الحديث وفي تاريخه.
استناداً إلى هذا الفصل الذي كان عنوانه «السُّنة مع بعض الكاتبين حديثاً» يمكن القول إن السباعي هو أول إسلامي إخواني نقد المثقفين الليبراليين الذين لهم كتابات في مجال الدراسات الإسلامية، والذين سبقوا الإخوان المسلمين في الكتابة في هذا المجال بسنوات. وفي نقد كتاباتهم في هذا المجال عدَّهم تلامذة للمستشرقين، جَرَوا وراء آرائهم ينقلونها كما هي، ومنهم مَن يُفاخر بأخذٍ عنهم، ومنهم مَن يُلبسها ثوباً إسلامياً جديداً. وعدَّهم في السوء أسوأ منهم! وفي الخطر أخطر منهم! ولقد أفرد أحمد أمين بالنقد والرد، لأنه رأى أنه أبرزهم.
يقول في مقدمة هذا الفصل عمّا كتبوه إلى تاريخ فراغه من كتابة رسالته: «هو هجوم لا يبدو واضحاً سافراً، كما بدت آراء المستشرقين من قبل، بل مقنع بستار العلم والبحث، متجنب المصارحة، مُفضِّل المواربة والمخاتلة، حتى لا يثيرُ صاحبُه عليه ثائرةَ الجمهورِ، وسنرى أن هذا اللون أخبث أثراً، وأسوأ نتيجة، وأقوى سلاحاً»! تأخرت طباعة هذه الرسالة في كتاب إلى عام 1960. وللحديث بقية.