طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

ماذا بعد «نورة»؟

استمع إلى المقالة

تتويج فيلم «نورة»، لتوفيق الزايدي قبل أيام بتنويه خاص من قسم «نظرة ما» في مهرجان «كان»، سيصبح مع الزمن نقطة فارقة في تاريخ السينما بالمملكة العربية السعودية، ورغم ذلك فإنه مجرد البداية لنجاحات وشيكة قادمة، السعودية أرض خصبة للإبداع وإنجاب المبدعين ومن مختلف الفنون، فقط كانت تنتظر المناخ المحفز، الفنان يتوق للحظة يفجر من خلالها الشحنة الكامنة، في ظل ظروف مواتية، توفر له أسباب التحرر والانطلاق، وبعدها لن تتفتح زهرة واحدة، بل حدائق من الزهور.

الفيلم يعود درامياً لعقد التسعينات من القرن الماضي، في قرية نرى فيها المعلم الذي يمنح تلاميذه ليس فقط المقرر الدراسي، ولكنه يرنو بعيداً عن المقرر، ويبدأ بالرسم، القرية هي نموذج مصغر لمجتمع كان يخشي حتى من مجرد أن يمسك بالريشة ويكتب على الورق. نورة، هي الفتاة التي تدفعها الرغبة في الحرية إلى أن تسعى لكي تصبح هي المعادل الموضوعي للوحة التي يبدعها المدرس (الفنان) بكل تداعياتها، لسنا بصدد قصة حب، السيناريو لا يشير أبداً إلى ذلك، حتى يمنح الفيلم رحابة أكثر في قراءة مفرداته، إنه العمق الفكري الذي يبثه الشريط السينمائي، والرغبة أن يتنفس المجتمع أكسجين الفن، هذا هو ما يقوله ببساطة فيلم «نورة»، مهما كان الزمن - في ذلك العقد (التسعينات) قبل نحو أكثر من ثلاثين عاماً - قاسياً في تقديره للفنون، والسماح بتداولها، إلا أن الشريط السينمائي، وكأنه يقدم لنا تحليل البنية التحتية التي دفعت الإنسان السعودي لكي يتحرر من سطوة العادات والتقاليد الرافضة للفن، هل تلك حقاً هي مشاعر الإنسان البسيط، الفيلم يؤكد أن ما كنا نراه على السطح في الماضي من تشدد في مواجهة الفنون، لا يعبر أبداً على العمق الحقيقي لرجل الشارع.

الحكاية ليست هي بالضبط ما تقرأه أو تراه على الشاشة، العمق الذي تحمله يشير إلى أنها تحاكي، الأواني المستطرقة، عندما يرتفع المنسوب في إناء، يرتفع وبالدرجة نفسها في الأواني الأخرى الموازية، تلك هي قناعتي، عندما تنتعش السينما في السعودية أشعر أن العالم العربي كله ينتعش أيضاً، صارت السعودية في الأعوام الأخيرة، تشكل سوقاً قوية، محلياً وعربياً ودولياً، في توزيع الأفلام في العالم، هي الأقوى حالياً على مستوى الشرق الأوسط، ولا يمكن سوى أن تتوقف عند ما حدث بكل دهشة وإعجاب، إيقاع التقدم يحقق تصاعداً ملحوظاً، سواء في عدد دور العرض التي يتم تشييدها أو الأفلام التي تنتج، وهو ما نتابعه من نجاح موازٍ ومؤثر في الغناء والموسيقي والدراما، يحيط كل ذلك رغبة عميقة للدفع بهذا النشاط الثقافي والفني بكل تنويعاته للمقدمة، وتتحرك تلك المنظومة، من خلال جناحي الإبداع وزارة الثقافة، وهيئة الترفيه.

أتابع قبل بضع سنوات الجناح السعودي للسينما في مدينة كان، الذي يرفرف فوقه علم المملكة على شاطئ الريفيرا، أكثر الأجنحة الذي يشهد نشاطاً دائماً، من لقاءات وتكريمات ومشروعات سينمائية قادمة، نشاهدها بعد ذلك في كبرى المهرجانات.

رأس المال السعودي يشارك أيضاً في العديد من الأفلام العربية والعالمية، بعد أن انتعشت السينما محلياً، تمتع الفنان بهامش متسع من الحرية في طرح العديد من القضايا الاجتماعية، التي كان يشار إليها في الماضي باعتبارها من المسكوت عنه، وكأن هناك لافتة مكتوب عليها «ممنوع الاقتراب أو التصوير».

السينما ككلمة قبل نحو بضع سنوات، لم يكن من السهل تداولها، فكانوا أحياناً يطلقون عليها صوراً متحركة، انطلقت بقوة لتصبح مركزاً رئيسياً في عروض الأفلام، كما أنها قدمت تسهيلات لمن يريد تصوير أفلام في السعودية، وهكذا تفتح الباب لكي يرى العالم هذا الثراء التاريخي الذي تحتويه أرض المملكة.

الحكاية في عمقها ليست فيلم مثل «نورة»، شارك في مسابقة مهمة، وتم تتويجه عن جدارة بجائزة، في واحد من أكبر مهرجانات الدنيا، ولكنه مناخ عام، كلنا شهود عيان عليه، يدفع ويحفز على المزيد من التفوق، وقبل كل ذلك مواطن يحمل «جينات» تناصر الفن، كانت فقط تنتظر اللحظة المواتية لتتفجر آبار الإبداع.