حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

هل بالإمكان إحياء القرار 1701 وتنفيذه؟

استمع إلى المقالة

لأنه لا شيء يفوق أهمية درء الخطر الداهم على لبنان؛ إنقاذاً للوجود وحماية للأرواح، أُعيد اكتشاف القرار الدولي 1701، الذي شكّل حماية للبلد بعد حرب العام 2006، فهل ما زال خشبة خلاص للبنانيين الذين يتوجسون من حربٍ مدمرة، نموذجها أكثر من غزة مصغرة في البلدات الحدودية التي سُويت بالأرض، وكيف تم التعاطي مع القرار فجرى تجويفه؟ وهل بالإمكان العودة إليه وتالياً تنفيذه؟

مع بدء مخطط «الإخلاء الفوري» لشرق رفح يوم الاثنين الماضي، وقرار الهجوم البري على مدينة يتكدس فيها ثلثا سكان غزة... ومن ثمّ انتهاك اتفاقية «كامب ديفيد» بتجاوز محور فيلادلفيا والسيطرة على معبر رفح، أسقطت إسرائيل مشروع وقف النار الذي وصفه نتنياهو بأنه «هزيمة لإسرائيل وانتصار لـ(حماس) وإيران»... إذذاك تسارع العد العكسي لبدء إسرائيل معركة واسعة على الجبهة الشمالية تتحكم تل أبيب، بالمبادرة إليها وتوقيتها ومداها بعدما استباحت لبنان بالخروق الاستخبارية الواسعة.

الحرب على رفح حملت عنوان اقتلاع قدرات «حماس»، لكنها واقعياً استكمال للتدمير الممنهج للعمران واتساع الإبادة وقتل الغزاويين جوعاً لوضعهم أمام واقع تهجير قسري. إنه مخطط الاستيلاء على الأرض، وفرض حزام أمني يحمي المستوطنات، وعزل الشمال وإنهاء الوجود الفلسطيني المؤثر. ما يعني أن هاجس إسرائيل لليوم التالي، منع أي إمكانية مستقبلية لتكرار «7 أكتوبر»، من خلال إنهاء حكم «حماس» وإدارتها للقطاع. إنه وهم الحل الأمني لتأمين شرط العودة الآمنة للمستوطنين إلى مستوطنات غلاف غزة.

مع نسف مشروع وقف حرب غزة وإشعال رفح، وإفشال الورقة الفرنسية حيال لبنان، تقدم خطر توسع العدوان. وشكل إعلان تل أبيب أن العودة الآمنة إلى المستوطنات الشمالية، ستتم قبل بدء العام الدراسي، مؤشراً لأشهر ساخنة. وما تم نقله إلى نجيب ميقاتي ونبيه بري بوصفهما صندوق بريد الرسائل إلى «حزب الله»، حمل تأكيدات بأن رهن الوضع بمشيئة ميليشيا «حزب الله» التي جعلت الجنوب ساحة «مشاغلة» لإسرائيل يضاعف من احتمالات ضربة عسكرية عنيفة للبنان. وحملت الاقتراحات والمبادرات عناوين حل مرحلي يبدأ بتموضعٍ جديد لـ«حزب الله» على مسافة 5 إلى 8 كلم من الخط الأزرق، تتبعها عودة النازحين على جانبي الحدود ووصولاً إلى حل الخلافات الحدودية العالقة منذ العام ألفين، مع تعزيز حضور الجيش في المنطقة مدعوماً من «يونيفيل». وعملياً، قيل للبنانيين عليكم أن تنسوا السرديات التي تعد بالحماية استناداً إلى وهم «قواعد الاشتباك»، وعليكم تدبير رأسكم بالداخل مع سلاح «الحزب»!

«الانسحاب» و«إعادة التموضع» شكّلا عبارات مفتاحية لمعالجة تفضي بالنهاية إلى القرار الدولي 1701. وارتبطت خلفية هذه الطروحات بيوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 عندما فتح «حزب الله» جبهة الجنوب، فتبين أن المرحلة الأولى من القرار الدولي 1701، «وقف العمليات العدائية» لم تُنفذ. وأن لبنان بعيد كل البعد عن المرحلة النهائية من قرار «وقف النار التام» وتكريس بسط السيادة عبر القوى العسكرية بمساعدة «يونيفيل». لم يفاجئ هذا الأمر الكيان الإسرائيلي الذي لم يوقف يوماً الخروقات المتعمدة، وكذلك مجلس الأمن الدولي الذي تضمنت تقاريره كل ما هو مرتبط بخروقات إسرائيل وممارسات «حزب الله» وأنفاقه التي تم اكتشافها قبل سنوات! لقد كان التواطؤ شاملاً من كل الأطراف الذين تعاموا عن مسارٍ خطير جوّف القرار الدولي، بدأ يوم احتلال بيروت في 7 مايو (أيار) 2008، ثم بدعة «الدوحة»: «جيش وشعب ومقاومة»، التي تصدرت البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة بعد العام 2008! بعدها اعتبر «الحزب» أن «الثلاثية» شرّعت سلاحه، ولا صدام مع البند الثامن من القرار 1701 الذي يشدد على: «إقامة منطقة بين الخط الأزرق والليطاني خالية من أي مسلحين أو ممتلكات أو أسلحة غير تلك التي تنشرها في المنطقة الحكومة اللبنانية وقوة «يونيفيل»! ولعل الأخطر تزامن هذا المنحى ومثله تغطية اختطاف «حزب الله» للدولة، مع مسار مبرمج واجهته القوى العسكرية الشرعية لتصبح عاجزة عن تنفيذ متطلبات القرار الدولي:

1- اضطرابات الداخل أرغمت الجيش اللبناني، على سحب عديده من الجنوب فتراجع حضوره ودوره مع تقلص العدد من 15 ألفاً إلى أقل من 5 آلاف.

2- بدأت معاناة الجيش مع قرار قديم بوقف التجنيد الإجباري، ولم يملأ التطوع الشغور الناجم عن التقاعد، ولم تؤمّن قرارات تمديد الخدمة المطلوب. وتسبب الانهيار بتقليص الموازنة العسكرية، فوجدت قيادة الجيش نفسها في موقع لا تحسد عليه يبدأ بتسول الوجبات الغذائية ولا ينتهي بقدرة محدودة لتغطية انتقال العسكريين إلى ثكناتهم، واضطرار القيادة إلى تقليص المهام!

3- زوار لبنان، كما مؤتمر روما واجتماع الإليزيه، أعربوا عن نوايا إيجابية لدعم الجيش بتغطية تكلفة التجنيد والتدريب والقدرات العسكرية واللوجيستية. لكن الواقع رسم خطوطاً حمراء تمنع التحول الذي يربط استعادة استقرار الجنوب والأمن بقيام الجيش بالمهام المتوقعة منه؟ إنه مسار مغلق نتيجة غياب القرار السياسي الممسوك من «حزب الله» الذي يقود حكومة تصريف الأعمال. لذا؛ لن تكون هناك قدرة على التجنيد، وستبقى الأولوية البحث عن تأمين الوجبات الغذائية، وتغذية متواضعة لصندوق دعم الرواتب حفاظاً على الهيكلية العسكرية بمنع التسرب!من دون أوهام لن يرضخ «حزب الله» لمنحى تأمين متطلبات تنفيذ القرار الدولي، وهو أشعل جبهة الجنوب من دون أخذ رأي أحد، ولا يحسب أي حسابٍ لـ«معارضة» نظام المحاصصة الصوتية. ولا يعيره القول أنه ينفذ أجندة إيرانية أياً كانت خسائرها وتبعاتها، أو أنه يستسهل استعادة مرحلة شبيهة بزمن «فتح لاند» متعامياً عن ويلاته. بل إنه جاهز للقتال دفاعاً عن نظام الولي الفقيه، وقاتل سنوات عديدة دفاعاً عن النظام السوري، واعتبر حرب اليمن أشرف حروبه! لذا؛ يعتبر الجنوب مجرد ميدان أمامي في صراعٍ جيو - سياسي على المنطقة. وخلافاً لما يُقال ينتظر تسوية - صفقة يصرفها بمزيد من التغول والسيطرة على الداخل.

يتطلب الوضع الكارثي من «التشرينيين» وكل الاستقلاليين الجديين رؤية أشمل لمشروع تسوية إنقاذية يستعيد الثقة ويعري التخاذل الرسمي والتواطؤ، وجهد ميداني يخرج المواطنين من المراوحة بفرض سياق مغاير لما يتم دفع البلد إليه لأن المصير على المحك. إنه المنحى الذي يحفزُ بَلورة مشروع بديل منطلقه «الكتلة التاريخية» لإنهاء الخلل الوطني المقيم ليكون ممكناً إعادة تكوين السلطة!