كيفين بويل
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

محاكمة ترمب... لفتة إلى الماضي

استمع إلى المقالة

من بين القضايا الجنائية الأربع التي يواجهها دونالد ترمب، تبدو القضية التي تتكشف فصولها الآن في مانهاتن، الأضعف بشكل عام، ذلك أن أساسها القانوني معقد، والشاهد الرئيسي بها مجرم مدان. أما تفاصيلها فمن نوع القصص التي يروق للصحف الصفراء نشرها في صدر صفحاتها الأولى.

الأسوأ من ذلك كله، أنها لا تدور حول تصرفات ترمب كرئيس، مثلما الحال مع القضايا الأخرى. ورغم كل ما سبق، فإنه حسبما كشفت المرافعات الشفهية داخل المحكمة العليا بخصوص مسألة الحصانة، الأسبوع الماضي، من المرجح أن تصبح القضية الوحيدة التي يجري حسمها قبل الانتخابات.

وباعتباري مؤرخاً سبق له تناول الأحداث المؤلمة التي وقعت في ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي، لا يسعني إلا أن أرى المشكلات القانونية التي يواجهها ترمب من منظور أنه رئيس جمهوري سابق.

من جهته، قضى ريتشارد نيكسون أكثر من عامين، من صيف عام 1972 إلى صيف عام 1974، في محاولة منع المحققين من كشف مجموعة الجرائم التي شكلت فضيحة «ووترغيت». إلا أنه على عكس ترمب، لم يواجه نيكسون شخصياً أي اتهامات جنائية. ولذلك، عانت العدالة، وعانت معها الأمة بأكملها.

وها نحن اليوم، تتكشف أمام أعيننا داخل المحكمة التي يترأسها القاضي وان ميرشان، نسخة أصغر حجماً وأكثر ابتذالاً من المحاكمات التي كان ينبغي للأمة أن تعقدها هذا العام، والأخرى التي كان ينبغي للأمة أن تعقدها قبل 50 عاماً.

من جهته، فاز نيكسون بالرئاسة عام 1968، ووعد بالضرب بيد من حديد على الجريمة ـ وهو ما فعله. وتكشف الأرقام أنه بين عامي 1961 و1968، تراجع عدد نزلاء السجون في البلاد بنسبة 15 في المائة. وبحلول الوقت الذي رحل فيه نيكسون عن الرئاسة عام 1974، كان الوضع قد عاد تقريباً إلى ما كان عليه عام 1962 ـ عند بداية دوامة غذتها سياسات فرض القانون والنظام المحمومة التي أطلقت إدارته لها العنان.

وقد عصفت هذه الموجة العقابية بالفقراء ومجتمعات أصحاب البشرة الملونة بشكل خاص - نتيجة بدا أن غالبية الأميركيين لا يمانعونها. إلا أنه عندما كشف تحقيق «ووترغيت» عن الجرائم المحتمل تورط نيكسون بها، رأى الأميركيون أن القانون يجب أن ينطبق عليه هو الآخر. ومع بلوغ الأزمة ذروتها في صيف عام 1974، تعزز هذا الاعتقاد: فقد أراد الأميركيون، بنسبة تكاد تكون اثنين إلى واحد، أن يتولى مجلس النواب سحب الثقة من الرئيس، بينما يتولى مجلس الشيوخ محاكمته، وأن يعمل المدعون على توجيه الاتهام إليه، حتى يتسنى نقل قضيته إلى محاكمة علنية.

إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث. وفي أوائل يوليو (تموز) 1974، قدم محامي نيكسون إلى المحكمة العليا مطالبة موكله بالحصانة الرئاسية. واستغرق القضاة أسبوعين فقط لإصدار حكمهم ضد موقف الرئيس، بأغلبية 8 مقابل 0.

وفي ضوء سلوك المحكمة العليا هذا العام، من المهم هنا التأكيد على عنصر الوقت: فقد جرت مناقشة القضية في الثامن من يوليو. وأصدر القضاة حكمهم في 24 يوليو.

وبين 27 و30 يوليو، وافقت اللجنة القضائية بمجلس النواب على مواد المساءلة. واستقال نيكسون بعد تسعة أيام، وما زالت المواد معلقة. وانتظر الرئيس فورد شهراً ثم منح سلفه «عفواً مطلقاً غير مشروط» عن الجرائم التي لم يكن قد واجه اتهامات بارتكابها بعد. وحينئذ، بدأ شيء ما يتغير في عيون الأميركيين.

في أبريل (نيسان) 1974، الشهر الذي بدأت تتكشف فيه عملية التستر على فضيحة «ووترغيت»، كان لدى 71 في المائة من الأميركيين، على الأقل، قدر لا بأس به من الثقة في النظام القانوني. وفي الأسابيع التي تلت العفو عن نيكسون، تراجعت هذه النسبة إلى 67 في المائة. وبعد مرور عام، انخفضت أكثر إلى 64 في المائة. ورغم حقيقة أنه لا يمكن إيعاز هذا الشعور المزداد بخيبة الأمل، حصراً إلى الفشل في تقديم نيكسون إلى المحاكمة، فإن مجموعة كاشفة من استطلاعات الرأي التي طواها النسيان منذ فترة طويلة، تشير إلى عدم مثول نيكسون أمام المحكمة كان له دور في ذلك.

عام 1971، طلبت «منظمة روبر»، التي كانت آنذاك واحدة من كبرى مؤسسات استطلاع الرأي في البلاد، من عينة مختارة عشوائياً من البالغين تحديد المجموعات التي يرون أن المحاكم تعاملت معها بتساهل بالغ. وضع المشاركون في الاستطلاع «بائعي المخدرات» على رأس القائمة، يليهم «متعاطو الهيروين»، و«متعاطو الماريغوانا»، و«الثوريون، والفوضويون، والمحرضون» - هؤلاء على وجه التحديد الذين وعد نيكسون بتقديمهم إلى العدالة، عبر جهود استعادة القانون والعدالة.

وطرحت مؤسسة «روبر» السؤال ذاته بعد عامين من العفو عن نيكسون. وجاء «بائعو المخدرات المتجولون» في المركز الأول مرة أخرى، بينما احتل «المسؤولون الحكوميون» المرتبة الثانية.

بمرور الوقت، خفت حدة نظرة الأميركيين للعفو عن نيكسون، في حين تفاقم شعورهم بعدم الثقة تجاه النظام القانوني - الشعور الذي جاء مدفوعاً، دونما شك، بالتفاقم السريع في التفاوتات الاقتصادية على مستوى البلاد. وعندما أعادت «روبر» طرح السؤال عام 1987، ظل المسؤولون الحكوميون محتكرين للمرتبة التالية مباشرة لتجار المخدرات، باعتبارهم المجموعة الأكثر احتمالاً للحصول على معاملة خاصة داخل قاعات المحاكم. وهذه المرة، احتل «كبار المسؤولين التنفيذيين بمجال الأعمال» المركز الرابع (مع «متعاطي الماريغوانا» و«مرتكبي الجرائم المتكررة»)، وأقل بقليل من «متعاطي الهيروين».

وظل تصور عامة الناس ثابتاً على هذا الوضع، مع اتساع فجوة توزيع الثروة، في الوقت الذي تسببت فيه الحرب، التي لا نهاية لها على ما يبدو، ضد الجريمة في الزج بحصة أكبر فأكبر من الفقراء داخل السجون.

وبحلول عام 2001، حسبما كشف استطلاع رأي أجرته مؤسستا «غرينبرغ كوينلان روزنر ريسرتش» و«أميركان فيوبوينت»، كانت ثمة قناعة ترسخت لدى 62 في المائة من الأميركيين بأن هناك منظومتي عدالة بالبلاد، واحدة للأغنياء أصحاب النفوذ، وأخرى لباقي أفراد المجتمع.

وبحلول عام 2019، ورداً على سؤال بصيغة مشابهة في إطار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «ويلو»، ارتفع هذا الرقم إلى 70 في المائة، أي أقل بنقطة واحدة فقط عن نسبة الجمهور الذي كان يثق بالمحاكم في ربيع عام 1974.

ومنذ ذلك الحين، انفجرت التوترات عبر أروقة النظام وطفت إلى العلن، بسبب احتجاجات عام 2020 ضد وحشية الشرطة، والرد الشرس الذي شنته إدارة ترمب ضد الاحتجاجات. أضف إلى هذه الكومة من المواد القابلة للاشتعال، التخريب المريض من جانب ترمب للعملية الانتخابية والانتقال السلمي والفاعل للسلطة، الأمر الذي تمخض عن ثلاث من القضايا الجنائية الأربع التي يواجهها.

من جهته، جابه ترمب التهم الموجهة إليه باستعراض صارخ للامتيازات التي تخلقها الثروة والسلطة. على مدى العامين الماضيين، أنفق نحو 76 مليون دولار من أموال الآخرين على الرسوم القانونية، معظمها لدفع تكاليف الطلبات والطعون التي حالت دون وصول القضايا الثلاث الأكثر إدانة إلى قاعات المحاكم. وأقنع المحكمة العليا بالتعامل مع مطالبته بالحصانة بتوقير، على الأقل في إطار المرافعات الشفهية، الأمر الذي لا يتماشى إلى حد كبير مع السوابق التي اتبعتها المحاكم الأدنى.

وطوال الوقت، سار ترمب نحو ترشيح الحزب الجمهوري، معتمداً على حملة قائمة على نسخة أخرى من سياسة القانون والنظام. إلا أن هذه النسخة تركز على المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء، بدلاً من بائعي ومدمني المخدرات.

في الواقع، مهما كان سير المحاكمة، فمن غير المرجح أن تغير آراء كثير من الناس حول ترمب - أو النظام القانوني.

اليوم، يعتقد ما يقرب من نصف الناخبين المسجلين أن التهم الموجهة إلى ترمب تقف خلفها دوافع سياسية، في حين يقول أكثر من الثلثين إن النتيجة لن تغير تصويتهم، أو أنهم من المرجح أن يصوتوا لصالح ترمب حتى إذا أدين.

الحقيقة أنه لا يمكن لأي حكم في قضية ترمب المنظورة في مانهاتن، أن يبطل خيبة الأمل في نظام العدالة التي أعقبت عفو الرئيس جيرالد فورد عن نيكسون. ومع ذلك، يبقى بمقدور هذه المحاكمة أن تصحح الخطأ الذي حدث قبل نصف قرن، عندما أتيحت للنظام آخر فرصة لإثبات أنه حتى أقوى رجل في أميركا يخضع لقوانينها - خصوصاً عندما يكون هذا الرجل متلهفاً إلى استغلال سياسات فرض القانون والنظام. وبالتأكيد، ثمة قدر من العدالة في ذلك.