واقعة الهجوم على (إنسكلوبيديا الإسلام) في باكستان بعد صدور طبعتها الثانية عام 1954، كما رواها برنارد لويس في مقاله (مسألة الاستشراق) هي –كما قال–: «جاء الهجوم الإسلامي عليها من كراتشي، عاصمة الجمهورية الإسلامية الجديدة التي دُعيت بالباكستان، وقد تركز على نقطتين أساسيتين: أولاً، غياب طبعة ألمانية وناشر ألماني، وثانياً، وجود يهودي فرنسي في لجنة تحريرها، هو المرحوم ليفي– بروفنصال. إن التركيز على العنصر الألماني إلى مثل هذا الحد، وإعطاءه درجة الأولوية، وفي كراتشي بالذات، يبدو شيئاً غريباً ومدهشاً. ولكن الدهشة زالت عندما عرفنا فيما بعد أن منظم هذا الهيجان كان شخصاً يُدعى (إمام تجمع المسلمين الألمان للباكستان الغربية). ويبدو أنه قد ساعده في هذه العملية دبلوماسي ألماني عُين مؤخراً هناك، ولم يتب بعد عن ماضيه النازي. وكان هناك في فترة لم تختف فيها بعد نفسية الرايخ الثالث بشكل كلي».
مرّ بنا في المقال السابق أن حازم صاغية ذهب إلى أن برنارد لويس يقصد بـ(إمام تجمع المسلمين الألمان للباكستان الغربية) محمد أسد.
كنتُ قد أجريت حواراً مع طلال أسد، ابن محمد أسد، نُشر في جريدة «الشرق الأوسط» عام 1994. وبعد مضي سنوات قليلة جمعتُ بعض الحوارات التي أجريتها في أواخر الثمانينات وفي المنتصف الأول من التسعينات الميلادية، لنشرها في كتاب. وفي أثناء الجمع بعثت إلى طلال بسؤال أستفسر فيه منه عما يعرفه عن هذه القضية.
أجابني بقوله: «مع أني لا أعرف شيئاً عن أحداث كراتشي التي رافقت ظهور الطبعة الثانية من (دائرة المعارف الإسلامية)، ولم أقرأ كتاب حازم صاغية عن الاستشراق، إلا أنه بوسعي أن أجزم بأن الشخص الذي أشار برنارد لويس إلى دوره في هذه الأحداث لم يكن والدي، كما يرجِّح حازم صاغية للأسباب التالية:
أولاها، أن الشخص الذي يشير إليه برنارد لويس، ألماني، ووالدي نمساوي. وثانيها، أن والدي غادر ألمانيا سنة 1926، وهو يهودي الأصل، وقتل النازيون أباه وأخته أثناء الحرب العالمية الثانية، فليس من مصلحته أن تكون له ادعاءات قومية جرمانية نيابة عن الألمان. ثالثها، أن والدي لم يُعرف عنه أنه كان (إماماً للمسلمين) في الباكستان الغربية، وعلى حسب علمي أنه في تلك الفترة لم تكن توجد جالية ألمانية مسلمة في الباكستان».
وأضيف إلى ما قاله طلال أسد، أن محمد أسد في العام الذي صدرت فيه الطبعة الثانية من (دائرة المعارف الإسلامية)، عام 1954، وفي العام الذي حدثت ضجة حولها في كراتشي، عام 1955، كان مقيماً في سويسرا، من عام 1952 إلى عام 1962، بعد أن عمل مدة وجيزة مندوباً للباكستان في هيئة الأمم المتحدة. فلقد استقال من عمله الحكومي هذا للتفرغ لكتابة جزء من سيرة حياته.
إن الحكم التعميمي لمحمد أسد في إدانة الاستشراق الذي أورده حازم صاغية، والذي اقتبسه من دراسة ميشال جحا، مرجعه الأصلي كان كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق). وهذا الكتاب صدر باللغة الإنجليزية عن (دار عرفات) بدلهي ولاهور عام 1934. أي أن هذا الكتاب صدر قبل صدور الطبعة الثانية من (دائرة المعارف الإسلامية) بسنين طويلة.
ثمة ملحوظة على رواية برنارد لويس لتلك الواقعة، وهي: أنه لم يذكر السبب الذي جعلهم في تلك الموسوعة التي بدأ العمل على إخراجها في طبعة ثانية منذ عام 1950، يسقطون اللغة الألمانية، ويكتفون بنشرها في اللغة الإنجليزية والفرنسية فقط، و«من دون أن يوجد عضو ألماني في اللجنة الدولية لتحريرها».
هل أغفل هذا التسبيب؛ لأن في حالة ذكره، سيبرز تعليل قومي ألماني آخر غير التعليل القومي النازي؟!
هذه الموسوعة –حسبما ذكر محمد كرد علي– صدرت نماذجها الأولى باللغة الألمانية، ثم صارت تُنشر بلغات ثلاث، هي: الألمانية والفرنسية والإنجليزية، في آن واحد، وذلك بعد أن نقدت فرنسا وإنجلترا القائمين الأوائل عليها دريهمات لتمويلها المالي.
قال حازم صاغية: «وليس عديم المعنى أن تكون (دائرة المعارف الإسلامية) ذريعة التمرين الهجومي الذي بدأه حسين الهراوي وطوّره محمد أسد، ثم جدّده إدوارد سعيد بهجومه على مشروع ديربلو».
قال هذا مع أنه كان قبلها قد قال بخلاصتين، هما:
أن الكلام الهجومي على الاستشراق لم يستقل بذاته عما عداه، إلا في حالات نادرة، فهو في معظمه كان جزءاً من الحملة على التبشير والمبشرين؛ خصوصاً أن عدداً من المستشرقين كانوا رجال دين.
وأن الحملة في حدودها هذه لم تتشكل في نظام معرفي مضاد ومتماسك، ولا هي دعت إلى مثله، مقتصرة في أسوأ أحوالها على أوصاف كالتي أطلقها حسين الهراوي في 1936 مع صدور (دائرة المعارف الإسلامية).
أضع هاتين الخلاصتين أمام القارئ، لكي أعبّر له عن اختلافي مع ما قاله حازم صاغية في الخلاصة الأولى، وهو أن محمد أسد طوّر التمرين الهجومي على (دائرة المعارف الإسلامية) الذي بدأه حسين الهراوي.
حازم صاغية يعتقد كما كثير من الباحثين أن كتاب حسين الهراوي (المستشرقون والإسلام) الذي صدر عام 1936، كتاب تأليف وليس جمع مقالات كُتبت في سنوات سابقة. ويعتقد أن حُكم محمد أسد التعميمي الذي استشهد به نقلاً عن دراسة ميشال جحا (المستشرقون في الميزان)، قال به قبل أو بعد حادثة كراتشي (1954– 1955) بسنين قليلة. والصحيح أنه قال به في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) الذي صدر قبل عامين من صدور كتاب الهراوي، وصدر بعيد نشر الهراوي مقالاته عن المستشرقين في صحف ومجلات مصرية.
إن ما قاله محمد أسد في مقدمة فصل (شبح الحروب الصليبية) في ذلك الكتاب في نقد المستشرقين، هو –حسب تعبير حازم صاغية– «مستقل بذاته عما عداه». ولم يكن «جزءاً من الحملة على التبشير والمبشرين». وفي تلك المقدمة لم يتعرض محمد أسد إلى (إنسكلوبيديا الإسلام) بشيء من النقد.
إن حملته على المستشرقين في ذلك الفصل، مع أنها جاءت في صفحات قليلة من ذلك الفصل، فإنها أعظم أثراً وتأثيراً في كتابات الإسلاميين العرب عبر أجيال متتالية، منذ أن صدرت ترجمته باللغة العربية عام 1946؛ أقول أعظم أثراً وتأثيراً من كتاب حسين الهراوي (المستشرقون والإسلام) الذي لا يعرفه إلا قلة قليلة من الإسلاميين.
إن كتابه الإسلامي الأول (الإسلام على مفترق الطرق) يتضمَّن ما سمَّاه حازم صاغية (النظام المعرفي المضاد والمتماسك) ليس حول الاستشراق فقط؛ بل يشمل الحضارة والثقافة الأوروبية، وإرثها المسيحي، وإرثها اليوناني والروماني. وهذا الكتاب الإسلامي الراديكالي من صدوره باللغة الإنجليزية عام 1934، ساهم مع كتابات المودودي الأولى في نقض الأطروحة الإصلاحية العصرية في الفكر الإسلامي الحديث في شبه القارة الهندية، وبعد أن ترجمه عمر فروخ إلى اللغة العربية عام 1946، كان الكتاب الأول في نقض تلك الأطروحة في العالم العربي.
في التأليف المعاصر، كان هذا الكتاب مع كتاب مولانا محمد علي (الإسلام والنظام العالمي الجديد) المترجم –أيضاً– إلى العربية، هما عدّتا سيد قطب في التنظير لموقف أصولي من الحضارة الغربية، في كتابه الإسلامي الأول (العدالة الاجتماعية في الإسلام) قبل أن يكون من «الإخوان المسلمين» ببضع سنين.
أبو الحسن الندوي الذي غدا مع المودودي، ابتداءً من السنوات الأولى في عقد الخمسينات الميلادية، الإطار المرجعي لسيد قطب في تنظيره للأصولية الإسلامية، تحدث في أحد كتبه عن تأثره بطريقة تناول محمد أسد وأبي الأعلى المودودي للحضارة الغربية، على أنها «جثة تُعرض للتشريح في كلية الطب والجراحة». وفي موضع آخر من هذا الكتاب، كتاب (شخصيات وكتب)، قال إنه من خلال كتاب (الإسلام على مفترق الطرق) «اطلع على نقائص الغرب الحقيقية، وأدرك طبيعة الثقافة الغربية، واستحالة انسجامها بالثقافة الإسلامية، وعرف التناقض الجذري المبدئي، بين هاتين الثقافتين بصورة واضحة وضّاءة، وبعمق وإمعان».
لا يعني هذا أنني أقلِّل من أهمية نقد الهراوي للمستشرقين من الناحية الدينية الإسلامية؛ سواء حين ظهر في مقالات منشورة في مجلات وصحف، أو حين ظهر –لاحقاً– في كتاب جمع فيه بعضها، فلنقده للمستشرقين ولنقده لـ(دائرة المعارف الإسلامية) في هجومه على فنسنك في مقالتين، أهمية زمنية في مصر وفي العالم العربي؛ إذ إنه أول رفض جذري وشامل للمستشرقين ولدائرة معارفهم الإسلامية. وللحديث بقية.