د. ياسر عبد العزيز
TT

«حماس» ضد «حماس» في معركة الاتصال

استمع إلى المقالة

في عام 2013، حصلت على فرصة ممتازة لزيارة قطاع غزة، وتقديم تدريب لمجموعة من الإعلاميين ومسؤولي الاتصال الفلسطينيين، وفي تلك الأثناء كانت الأوضاع مستقرة ومستتبّة لمصلحة حكومة الأمر الواقع في القطاع؛ أي «حماس».

وبين كثير من الأفكار التي خرجت بها من تلك الزيارة المُهمة، تكرس لديّ انطباع بأن «حماس» طوّرت استراتيجية اتصال كفؤة، وماكينة اتصال فعالة، وأنها استفادت من ميراث متراكم من الخبرات، وموارد مستديمة وأخرى طازجة، ومساعدات فنية وعينية قيمة من «أصدقاء»، في وضع آلتها الاتصالية والإعلامية على سكة الاحتراف.

لم يكن هذا مُستغرباً أو مفاجئاً بطبيعة الحال؛ إذ إن «حماس» في جيناتها العميقة هي «الإخوان المسلمون»، وفي انتمائها الأبعد هي منظمة سياسية وعسكرية ذات ارتكاز عقائدي، وإسناد ديني مُحدد، وبالتالي، فستتشارك مع تلك المكوّنات الطبيعية سلوكاً مواتياً للبيئة الإعلامية، ومعولاً على القدرات الاتصالية، التي يمكن أن تُصلّب قوامها في أحلك الظروف، وأن تعوض تهافت أدوات القوة الصلبة في عديد الأحيان.

لم يكن الاستثمار في الأساليب الدعائية والإعلامية غائباً عن التكوينات السياسية ذات الإسناد الديني منذ فجر التاريخ. وفي العقود الأخيرة لم تنجح منظمة سياسية أو عسكرية ذات نهج عقائدي في تحقيق أهدافها، أو حتى البقاء في صورة الأحداث، من دون سياسة اتصالية فعالة.

وفي بعض الأحيان، كانت القدرات الاتصالية بالنسبة إلى عدد من تلك المنظمات أكثر من نصف قدرتها الكلية، ومن خلالها تتم الدعوة، والتجنيد، وبناء الصورة الذهنية، والتشويش على الأعداء، وتلطيخ سمعتهم، والضغط على الخصوم، وتمجيد الحلفاء، وممارسة العمل الميداني، بل وممارسة الاتصال السياسي، وخوض المفاوضات.

وقد منح تطور البيئة الاتصالية العالمية، وبروز الدور الكبير لتكنولوجيا المعلومات، وصعود وسائل «التواصل الاجتماعي»، وتغير آليات التأثير في الرأي العام، فرصة كبيرة لـ«حماس» ومثيلاتها؛ إذ توفر تلك البيئة ميزات هائلة؛ مثل القدرة على التخفي، وتجاوز الحدود، والكلفة المحدودة، وسهولة الانتشار، وكلها عوامل تصب في مصلحة الجماعات المُقاتلة بقدر ما تخصم من مقدرات الدول الكبيرة والجيوش النظامية.

وعندما خاضت «حماس» حروبها الأخيرة ضد إسرائيل، بدءاً من عام 2008، كان بالإمكان ملاحظة أنها نسقت جهودها الاتصالية ضمن استراتيجية فعالة، كما كان من الواضح أن تلك الجهود تضافرت بوضوح مع أدوات إعلامية واتصالية إقليمية نافذة، لتحقيق أهداف محددة.

لكن ما جرى بموازاة اندلاع عملية «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اتخذ نهجاً مغايراً في هذا الإطار؛ فبينما تكللت معارك «حماس» الاتصالية السابقة منذ 2008 بالنجاح، استناداً إلى «استراتيجية الضعف والمظلومية المُثبتة»، فإن المعركة الأخيرة بدأت بـ«استراتيجية النصر والاقتدار»، وما صحب ذلك من مشاهد «إذلال العدو» و«استباحته».

لذلك، كانت الصور والأخبار الأولى الواردة من «طوفان الأقصى» أفضل ما يمكن أن تحصل عليه إسرائيل اتصالياً، لتسويغ سلوكها العدواني اللاحق، والحصول على غطاء سياسي مناسب له، ظل صالحاً لتأمين كثير من الشطط لعدد من الأسابيع.

لم تظهر معلومات أو تحليلات كافية لتوضيح سر هذا التغيّر الكبير في النهج الاتصالي لـ«حماس»، ومع ذلك، فسيمكنني أن أتوقع أن يكون ذلك عائداً لرغبات بعض الداعمين والمانحين، الذين خدمت تلك الصور الأولى أفكارهم أو أهدافهم الضيقة المباشرة.

على أي حال، لقد أدركت «حماس» سريعاً أن هذا النهج مُكلف جداً وغير فعال، وأنه قد يكلفها وجودها الميداني نفسه، والقضية الفلسطينية برمتها. وبناء عليه، فقد جرى تغيير استراتيجي في منتصف المعركة أعاد لاستراتيجية «الضعف والمظلومية» اعتبارها.

والآن، وبعد مرور أكثر من 200 يوم من أعمال القتال في غزة، سيمكننا القول إن «حماس» ربحت اتصالياً، بعد هزيمة سريعة بمواكبة اندلاع المعارك. وسيكون منبع الغرابة هنا متجسداً في أن الهدف الاتصالي «الحمساوي» يتحقق بموازاة التراجع الميداني، وأن كل نقطة دم يبذلها مدني أعزل، على أيدي آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، تزيد فاعلية اتصال الحركة، وهو أمر معاكس تماماً لفكرة «الانتصار والاقتدار»، التي أُريد لها أن تسود في البدايات.

التغير الواضح في الرأي العام العالمي المواكب للحرب في غزة لم يحدث لأن «حماس» هزمت إسرائيل، واخترقت وسائل دفاعها الثمينة والمُكلفة، وقوّضت صورتها كدولة قوية، وأذلت جنودها، و«أسرت مدنييها»، لكنه يحدث الآن باطراد، لأن «حماس» أظهرت الضعف... ضعف الإنسان الفلسطيني الأعزل الفرد في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.

ستكون تلك الفكرة صادمة لقطاعات واسعة من الجمهور المحلي والعربي والإسلامي، كانت قد انتشت بفكرة الاقتدار، وستكون أيضاً غير مريحة لبعض داعمي «الطوفان» والمستفيدين منه، لكنها حقيقية بكل تأكيد، وقابلة للإثبات.