د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

كيف غيرت الإدارة حياتنا بعد الحرب العالمية؟

استمع إلى المقالة

بُعيد الحرب العالمية الثانية، وجدت الأمم المتقدمة نفسها في مأزق إعادة البناء في ظل محدودية الطرق الفعالة لإعادة الأمور إلى نصابها تجارياً واقتصادياً، فنشط علماء الإدارة أكثر من أي وقت مضى ليتعمقوا في ما يسمى بالحقبة الكمية في الإدارة «Quantitative Approach»، هذه الطريقة التي تسمى أيضاً «بحوث العمليات» نشأت من أساليب رياضية وإحصائية لتقدم حلولاً للأمور اللوجيستية في الجيوش، وحل مشكلات الرقابة على الجودة، وتحسين الإنتاج. باختصار، كانت هناك مساعٍ جادة للتركيز على تطوير آلية تتسم بالرشد في اتخاذ القرارات باستخدام نماذج إحصائية ومعلوماتية وحاسوبية... وغيرها.

مهّد ذلك الطريق لحاملي لواء الجودة التي صرنا ما أن نرى علامتها تزين المنتجات والخدمات حتى نشعر بالفخر والاطمئنان ونحن نشتريها. وانتشر آنذاك مفهوم «إدارة الجودة»، فلم يعد أصحاب الأعمال والشركات والمصانع الكبرى يقبلون بـ«جيد جداً»، بل يسعون إلى أقصى درجات «الإتقان». كل ذلك أنشأ معايير رقمية واضحة لقياس الأداء وفاعلية الإنتاجية لم تكن موجودة في سالف الأزمان، وهو ما عُدَّ نقلة نوعية في عالم الإدارة، بل في العالم بأسره.

إذن، حاول العلماء إضفاء الجودة ليس على السلع والخدمات فحسب، بل على قراراتنا أيضاً؛ ولهذا بسط د. أحمد ماهر وزملاؤه في كتابهم «الإدارة: المبادئ والمهارات» فكرة حقبة بحوث العمليات في المثال التالي:

إذا كانت إحدى الشركات في منطقة الإسكندرية ترغب في فتح سوق جديدة لها في منطقة دمنهور بوصفها امتداداً لمدينة الإسكندرية، وكانت الشركة تنوي عرض 1000 وحدة بدمنهور، وسعر الوحدة 500 جنيه بربح قدره 150 جنيهاً للوحدة، وإذا ما كانت نتيجة البحوث التسويقية والاستطلاعية قد بيَّنت أن احتمال بيع هذه الوحدات يقدَّر بنسبة 70 في المائة، وأن الشركة تخسر 200 جنيه في الوحدة غير المبيعة، إذن فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل تُقدِم الشركة على دخول السوق الجديدة أم لا؟ للإجابة كمياً عن هذا التساؤل، واتخاذ قرار حصيف يمكننا القول إن دخول السوق يحقق احتمالاً للربح مقداره 1000 ضرب 150 جنيهاً ربحاً للوحدة الواحدة ضرب 70 في المائة، فإن احتمال تحقق الربح يساوي 105 آلاف جنيه.

كما أن حساب احتمالية الخسارة يكون على النحو التالي: 1000 وحدة ضرب 200 جنيه خسارة الوحدة ضرب 30 في المائة فإن مقدار مبلغ الخسارة يساوي 60 ألف جنيه. وبطرح احتمال الخسارة من احتمال الربح (60 ألفاً – 105 آلاف) يمكن القول بأن صافي احتمال الربح يساوي 45 ألف جنيه، ومن ثم يجب أن يكون القرار النهائي في صالح دخول السوق الجديدة في دمنهور.

هذا المثال يبسط بدقة طريقة تفكير جديدة دخلت إلى عالم الإدارة لتحسين عملياتها. وهناك مواد كاملة تدرّس في كليات الأعمال لتعليم الطلبة طرائق اتخاذ القرار بالاستناد إلى الأساليب الكمية الإحصائية والرياضية. هذا النهج الحديث فتح آفاق التعاون مع المهندسين الذين تقاطروا على المصانع والشركات الكبرى للاستفادة من عقولهم في تجويد آلية العمل، واتخاذ القرارات.

وبعبارة أخرى، صارت بحوث العمليات تلاحظ وقوع المشكلة، ثم تبدأ بوضع نموذج رياضي أو آخر متعارف عليه، ثم تبدأ بحلها باستخدام تلك النماذج، ثم تتأكد من جودة النتائج لمزيد من التحسين والتعديل... وهكذا؛ ولذلك يتحلى هذا الأسلوب بالموضوعية؛ لأنه يستند إلى منطق رقمي، غير أن أكبر التحديات التي كانت تواجهه هو مدى توافر البيانات الكمية آنذاك، والتي صارت بفضل عصر الرقمنة الذي نعيشه متوافرة بشكل كبير.

وللحديث بقية...