د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

البعث الغريب لحل الدولتين

استمع إلى المقالة

عنوان هذا المقال مستعار من مقال لمارتن إنديك (مساعد وزير الخارجية والمفوض في مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية، السفير السابق للولايات المتحدة في إسرائيل، بالإضافة لمناصب أخرى) نشر في العدد الأخير (أبريل «نيسان»/ مارس «آذار» 2024) لمجلة «الشؤون الخارجية». بقية العنوان لعلها تأخذنا إلى جوهر الموضوع: «كيف لحرب لا يمكن تخيلها أن تؤدي إلى السلام الوحيد الممكن تخيله؟». الكاتب الخبير في الموضوع يأخذ قراءة إلى رحلة طويلة مع حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية في صعوده وهبوطه عبر ثمانية عقود تقريباً، منذ طُرح في تقرير لجنة «بيل» البريطانية عام 1937 الذي كان منوطاً به البحث عن حل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، في أعقاب الثورة الفلسطينية عام 1936.

المقال في جوهره يقع في مصفوفة المساهمات الجارية في كتابات «اليوم التالي» التي تبحث فيما يجب عمله في أعقاب الانتهاء من الحرب الحالية في غزة؛ وفيه يبدو السيد إنديك متشككاً في الحل الذي فشل تجسيده عبر عقود طويلة، ومن خلال منظمات عدة، مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة التي طرحت القرار 181 لتقسيم فلسطين؛ أو الاقتراب منه في اتفاقيات أوسلو، ومفاوضات كامب ديفيد الثانية تحت إشراف الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، في صيف عام 2000، والتي أعقبتها الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي أدت إلى وضع نهاية لإمكانية حل الدولتين. ومع ذلك فإنه يرى أنه في إطار الحرب الجارية فإن هناك فرصة يمكن انتهازها انطلقت من ظروف الحرب الحالية ومسارها، بحيث تقوم الولايات المتحدة بدور قائد في ترجمة هذا المشروع إلى واقع، بعد تغيير الأوضاع داخل السلطة الوطنية الفلسطينية من ناحية، وداخل إسرائيل من ناحية أخرى، مع قيام الدول العربية بأدوارها الممكنة لمساندة الحل، وتعمير غزة من ناحية ثالثة.

تفاصيل ذلك بالطبع كثيرة؛ ولكنه من ناحيتنا في العالم العربي فإنه يستفز الحاجة الماسة لوجود طرح عربي ممكن للتعامل مع الموضوع الحيوي.

المقال والطائفة من المقالات والأفكار التي ينتمي إليها يخرج عن التقاليد التي جرت فيما يتعلق باليوم التالي، والتي تترتب عادة على ما تنتهي إليه أمور الحرب. المفاوضات التي جرت لترتيب الأوضاع بعد الحرب العالمية الثانية بدأت بعد أن بات واضحاً أن الحلفاء في طريقهم إلى النصر، وأن العالم سوف يسفر عن نظام عالمي جديد، سوف تكون فيه للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مكانة متميزة. حرب فيتنام انتهت بعد مفاوضات كثيرة جرى فيها تصوير العلاقة بين شمال فيتنام وجنوبها، ولكن بعد اجتياح الشمال للجنوب بعد خروج الأميركيين من فيتنام بات الأمر بلا معنى.

حديث «اليوم التالي» حالياً يقوم على فرضية أن كلا الطرفين في الحرب قد تعلما الدرس: تعلمت إسرائيل من غفلتها، وتعلّم الفلسطينيون من درس بالغ القسوة، له ثمن فادح في الأرواح والجرحى والمدن المدمرة؛ وكلا الطرفين أصبح من الإرهاق على استعداد للانتقال لمرحلة جديدة.

الفرضية الثانية أن كل الحلول الأخرى التي اقتُرحت في الماضي ليست لديها فرصة للتحقق. فما كان في السابق من مقترحات «الدولة الواحدة» التي يعيش فيها الطرفان تحت قواعد المساواة للمواطنين، أو دولة ثنائية القومية لمساواة أخرى، أو الاستمرار الهش للأمر الواقع القائم على السيطرة الإسرائيلية الكاملة؛ أو ما قام به نتنياهو من الفصل بين غزة والضفة الغربية، مع إطلاق يد المستوطنين في الضفة، لن يكون كافياً لأوضاع مستقرة.

الفرضية الثالثة أن الولايات المتحدة سوف يكون لديها استقرار على قيادة أو منهج واحد خلال السنوات المقبلة، لكي يجري بسلام عبور طريق حل الدولتين، إلى واقع يتم فيه التعايش بين شعبين يقعان بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وهو ما لا تشهد عليه الظروف الانتخابية الرئاسية الأميركية.

الفرضية الرابعة أن الحرب الجارية بين «حماس» وإسرائيل سوف تبقى على حالها بين طرفين؛ وهي على عكس الشواهد التي تشير إلى أن بذور الاتساع في نطاق الحرب على الجبهات اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية موجودة، حتى تصل إلى إمكانات المواجهة الإيرانية الأميركية المباشرة.

المسألة التي لا يمكن تجاهلها هنا، هي أن الحرب الجارية الآن تقع في القلب من المنطقة العربية، وهي تهدد استقرارها وقدرتها على الاستمرار في عمليات البناء والتنمية الجارية الآن. وحتى وقت كتابة المقال، فإن الدول العربية المعنية قامت بجهد كبير لمعاونة الشعب الفلسطيني ونصرته بما قدمته من مساعدات، ونشر المخالفات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية، وفي العموم إنعاش القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، حتى تحققَ انقلاب كبير في الرأي العام العالمي، بما فيه داخل الولايات المتحدة ذاتها.

ولكن «اليوم التالي» يستوجب ما هو أكثر من ذلك، وخلال فترة قصيرة، أولاً لمنع الصراع من الامتداد والانتشار؛ وثانياً لتعامل مع حل الدولتين تكون فيه واجبات على الدول العربية لإنضاج الواقع الفلسطيني للتعامل مع معنى «الدولة الفلسطينية» الموحدة سياسياً وعسكرياً، أو هذا ما تتوقعه الولايات المتحدة، وهو ما يعني قائمة طويلة ليست فيها التكلفة المالية فقط، وإنما أكثر من ذلك: كيفية التعامل مع «حماس» غير الموافقة على قيام «الدولة الفلسطينية» وفق مكوناتها في الضفة والقطاع. وثالثاً أن حل الدولتين يعني؛ ليس التفكير في الدولة الفلسطينية فقط، وإنما أيضاً الدولة الإسرائيلية؛ حيث كلاهما لازم للآخر. وهنا ربما من الحكمة العودة إلى دفتر محاولات السلام السابقة، بما فيها «النموذج الساداتي» القائم على تغيير البيئة السياسية الإسرائيلية، و«النموذج الأردني» الذي يمزج ما بين النموذجين.

الأمر الذي لا يمكن تجاهله هنا، أن الدول العربية تحتاج إلى كثير من التفكير، ومراكز للفكر أيضاً تفحص وتمحص وتقترح؛ ولعل ذلك يتطلب مقالاً آخر.