كل مدرب لقيادة السيارات في العالم لا بد من أن يخبرك بزاوية خطيرة، يطلق عليها «المنطقة العمياء» تقع خلف كتفي السائق باتجاه العجلات الخلفية. خطورتها تكمن في أن جميع مرايا المركبة يصعب أن تعكس لك ما يحدث فيها. ولذلك كان لا بد من التفاتة خاطفة قبل تجاوز الحارات أو الانعطاف يمنة ويسرة.
وتبين لعلماء القيادة وغيرهم أن هذه المنطقة العمياء blind spot موجودة في كل منا. فالقيادي بطبيعته لا يعلم أن وجهة نظر المحيطين به تختلف بشكل ملحوظ عن وجهة نظره في أدائه. ففي أحد أبحاثي عن القيادة في القطاع المالي، وجدت أن المرؤوسين لا يتفقون مع آراء قيادييهم بشأن أسلوبهم القيادي. بمعنى آخر، رأي المحيطين بالقياديين عادة ما يكون أكثر سلبية مما يتوقع القائد نفسه. فإذا كان يقيّم سلوكه القيادي بمعدل 9 من 10 فإن المرؤوسين لا يمنحونه أكثر من 7 مثلاً وهكذا.
وبعد تتبع سلسلة من الأبحاث الرصينة حول العالم وجدت أن تقييم الآخرين للقياديين أقسى من تقييم القيادي لنفسه. فمهما كان يظن أنه يتحلى بأسلوب مميز، فإن أبحاث القيادة ترى أن أتباعه لا يشاطرونه الرأي نفسه أو بالأحرى قد يتفقون معه ولكن بدرجة أقل من تقييمه لنفسه! وهذا دليل آخر على أن ثمة منطقة عمياء لا نعرفها عن أنفسنا. وتتطلب مزيداً من سعة الصدر وتقبُّل الرأي الآخر والتحسين المستمر في سلوكياتنا علّنا نحسن دفة القيادة.
ولذلك تجد عدداً من القياديين الواعين لقدراتهم الحقيقية يتحلون بـ«نكران الذات» فمهما أنجزوا فإنهم لا يرون شأناً يذكر لإنجازاتهم، وهذا سر تفانيهم المستمر. وهو أمر جيد حتى يكون تحت وطأة تقديم المزيد، لكنه يصبح نقصاً في تقدير الذات، عندما لا يرى لنفسه ولا لعطائه قيمة. وشتان بين الثقة بالنفس وتقدير الذات، فتقدير الذات هو أمر ثابت يجب ألّا يقل مقداره في نفس المرء، في حين أن الثقة بالنفس مسألة نسبية لأنها مرتبطة بأنشطتنا الحياتية ونجاحاتنا وإخفاقاتنا.
وقد قدّم العالِم جوهاري في نافذته الشهيرة، منطقة عمياء موجودة في كل إنسان وهي التي تعكس جوانب يراها الآخرون فينا لكننا غير واعين بها، مثل همجيتنا وسطوتنا وفوقيتنا وانحيازنا وفوضويتنا وغيرها. فالبعض قد يكون أصل كل مشاكله أنه لا «يصغي» جيداً للمحيطين به، فيقع في حماقة الأخطاء المتتالية. وهناك نوافذ ثلاث أخرى، لتوضيح الوعي الذاتي والعلاقات بين الأفراد، مثل «المنطقة المفتوحة» وهي الجوانب المعروفة من قبل الشخص نفسه ومن قبل الآخرين. و«المنطقة الخفية» هي المعلومات المعروفة للفرد عن نفسه لكنها غير معروفة للآخرين. و«المنطقة المجهولة» وهي المعلومات التي لا يعرفها الشخص عن نفسه ولا يعرفها الآخرون.
هذا كله يشير إلى أننا ننحن البشر ما إنْ نخرج من دوائر الصداقات الضيقة التي «نختارها» إلى فضاء بيئات العمل بشتى أنواع البشر «المفروضة علينا» حتى نكتشف حقيقة شخصياتنا. فمن يدرك باكراً «معضلته» أو منطقته العمياء يتقدّم بسرعة ورشاقة نحو أهدافه الحياتية والمهنية. هؤلاء هم الذين نعجب بهم بعد ردح من الزمن. غير أن المرء يصعب أن يتغير ما لم يعترف بوجود المشكلة، فهذا أولى خطوات التغيير.