قال لويس عوض في محاضرته الأميركية «التطور الثقافي في مصر منذ 1952»: «كان ثمة تيار الإخوان المسلمين المتدفق الذي يحاول أن يدخل عادات من التفكير غير العقلاني إلى العقول المصرية، وكان ثمة هؤلاء الأعلام – يقصد هيكل وطه حسين والعقاد – يحاولون أن يقاوموا تأثير هذه القوى غير العقلانية في المجتمع المصري كل بمنهجه».
هذا الحكم للعقول المصرية بالعقلانية بهذه الصورة وبهذه الكيفية، هو حكم «جوهراني». والحكم أو التفسير «الجوهراني» أو «الماهوي» - الذي هو تفسير لا تاريخي - في إطلاقه صفات ثابتة لا تتبدل ولا تتحول على شعوب وعلى أديان وعلى مذاهب وعلى ثقافات وعلى تقاليد ما، قد تكون فيها هذه الصفات «الهوياتية» صفات سلبية، وقد تكون صفات إيجابية.
وهذه الصفة، صفة العقلانية التي وصف لويس عوض بها العقول المصرية نخلص منها إلى أن العقول المصرية - كما أراد أن يقول من دون تصريح مباشر - اعتادت وتعودت أن يكون تفكيرها مبنياً على الفكر الفلسفي وليس على الفكر اللاهوتي، وعلى الفكر العلمي وليس على الفكر الديني!
وذلك منذ ظهور النزعة «الإيبوكيلية» في العقل والثقافة المصرية، وهي النزعة التي يحدد بداية ظهورها بعام 1798، عام الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال نابليون بونابرت.
هذا التفصيل في معنى استعماله لمفردة «العقلانية» وفي تاريخ نشأة النزعة «الإيبوكيلية» في المجتمع المصري، عرفته من محاضرته اللندنية «التطورات الثقافية في مصر منذ عام 1952»، التي ألقاها قبل أن يلقي محاضرته الأميركية، بما ينوف على الخمس سنوات بشهرين.
يقول في محاضرته اللندنية: «بل إن الطبيعة الزمنية الملازمة للفكرة الثورية المصرية يمكن أن تستقصى تاريخياً إلى عام 1798 عام بونابرت وحملته الفرنسية التي جعلت من مصر دولة زمنية علمانية. وفي الواقع أن بونابرت لم يحول مصر إلى دولة زمنية علمانية إلا بالمعنى التاريخي فقط. فما أن فك بونابرت عن مصر أغلال الترك والمماليك حتى اكتشف أنه يتعامل مع أمة علمانية في جوهرها بلا أوهام عن الثيوقراطية، أي حكومة الله، التي قامت عليها الخلافة العثمانية. ثم أنه سرعان ما اكتشف أن المصريين كانوا أيضاً بلا أوهام عن مبادئ الثورة الفرنسية ذاتها. وكانت هذه العلمانية أوضح ما يكون في قادة الفكر والثقافة في ذلك العصر وهم علماء الأزهر، الذين أبدوا استعدادهم على الفور بقيادة الشيخ الشرقاوي لحمل مسؤوليات حكم مصر في استقلال عن السيطرة الثيوقراطية التي كانت تفرضها الخلافة العثمانية. فباستثناء السيد عمر مكرم الذي فرَّ مع المماليك والأتراك وراء الحدود المصرية، غالباً بسبب وضعه الديني الخاص في العالم الإسلامي بوصفه (نقيب الأشراف)، أي الرئيس الأعلى للطرق الصوفية، اشترك هؤلاء العلماء في الديوان الصغير أو مجلس الوزراء وفي الديوان الكبير، أو هيكل البرلمان الذي أنشئ في ذلك العصر، واشتغلوا بجد نحو بناء دولة علمانية واقتصاد علماني ومؤسسات علمانية في أرض مصر، واقتبسوا للحياة المصرية ما وجدوه نافعاً في المؤسسات المدنية والتجربة الاجتماعية والمعرفة العلمية الأوروبية».
في البداية قرر بعد استقصاء تاريخي أن نابليون بونابرت وحملته الفرنسية هما من جلبا الدولة الزمنية العلمانية إلى مصر، ثم ما لبث أن استدرك على ما قرّره في استقصائه التاريخي، فجردهما من هذا الفضل التاريخي العلماني، إذ جعلهما مجرد كاشفيّ الغطاء عن قاع العلمانية في مصر، التي برزت لهم كـ«أرض واسعة سهلة مطمئنة»، وذلك بعد أن دكّا جبال وآكام الدولة الدينية الثيوقراطية التي راكمها الترك والمماليك في مصر. ولما تجلّت لنابليون وحملته الفرنسية العلمانية المصرية بهذا الوضوح والنصاعة، اكتشفا أن المصريين يرتضون مبادئ الثورة الفرنسية، ربما لنسب سياسي وقربى فكرية بين المصريين وبين الثورة الفرنسية!
في المشهد التاريخي الذي رسمته ريشة لويس عوض، علماء الأزهر مثلهم مثل بقية المصريين كانوا مهيئين للأخذ بالعلمانية على الطريقة الفرنسية، وهي الطريقة القاسية أو المتطرفة. ولا أدري كيف فاته في هذا المقام أن ينعى على الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا ورجال الدين فيها موقفهم المعادي للثورة العلمانية الفرنسية ومقاومتهم للنظام الجمهوري الجديد، نصرة للنظام الأرستقراطي الإقطاعي القديم، لإظهار قدر ما بلغه علماء الأزهر من الثورية التقدمية والعلمانية الراديكالية؟!
هناك في محاضرته اللندنية تفصيلات أخرى، لما يعنيه بعقلانية العقول المصرية في محاضرته الأميركية، ولعل في التفصيل الذي اقتبسته من محاضرته اللندنية ما يغني عن إيرادها.
لويس عوض في محاضرته اللندنية لم يستعمل مفردة «الإيبوكيلية»، وإنما استعملها بمضمونها. ولهذا استعملتها لفظاً في هذا المقال.
«الإيبوكيلية» في معناها، تشير إلى أن التطور الحاصل في مجتمع ما هو تطور فريد، دفع بهذا المجتمع إلى عصر جديد، لا سبيل فيه للاعتماد على الماضي، بوصفه مرجعاً أو مخزناً للحلول، لأنه لم يعد بإمكانه أن يقدم ما هو سائغ للعصر الجديد.
الأحداث البارزة في محاضرة لويس عوض اللندنية التي صنعت الزمن أو العصر الجديد في مصر، هي: الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، والثورة العرابية عام 1882، وثورة 1919، وثورة يوليو عام 1952.
لكل زمن أو عصر جديد صنّاعه أو صانعيه. لويس عوض - وهو يعدد أسماءهم - استعمل تعبير «الفكرة الثورية» التي «تتجلى في مبدأين: أولهما: هو مصر ذات سيادة. والآخر، هو إقامة دولة علمانية».
الأسماء التي عدّدها هي على التوالي: محمد علي باشا، أحمد عرابي، سعد زغلول، جمال عبد الناصر. ونرى هنا اختلالاً بين الحوادث البارزة أو الكبرى التي علمنت المجتمع المصري بالطريقة اللّائكية وبين صنّاعها، فقد ظهر اسم محمد علي باشا فجأة، وسقط اسم نابليون بونابرت وحملته الفرنسية، أو على وجه الدقة اسم نابليون بونابرت لأنه هو الذي فكر في غزو مصر، وهو الذي قاد الحملة العسكرية الفرنسية عليها.
وفي محاضرته الأميركية «التطور الثقافي في مصر منذ 1952» المتشابهة في عنوانها والمتطابقة في موضوعها مع محاضرته اللندنية «التطورات الثقافية في مصر منذ 1952» اكتفى بالإشارة إلى ثورة 1919، باعتبارها هي الحادثة السياسية الثورية في الوعي القومي الوطني العلماني في تاريخ مصر الحديث، وصب سخطه على ثورة 1952، وعدّها استمراراً لخط التراجع والنكوص عن غاية ثورة 1919 «التي قامت من أجل الدستور والحياة الديمقراطية الليبرالية». وهو التراجع والنكوص عن مبادئ هذه الثورة الذي أرّخ لبدايته بعام 1936، عام توقيع معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا.
إن الثورة العرابية تضمنت مظهراً من مظاهر القومية (الوطنية) لكن قائدها أحمد عرابي لم يكن قومياً مصرياً علمانياً. فهو قد استصدر فتوى من علماء الأزهر اتهم الخديوي توفيق فيها بخيانة الإسلام، واتهمه بموالاة اليهود والنصارى. كما أنه كان موالياً للخليفة العثماني ويدين بالطاعة له. وقادة الثورة العرابية كانوا مثله يدينون بالولاء له، وصرحوا بأنه «سلطان الملة الإسلامية». وينادون باستمرار تبعية مصر للدولة العثمانية الإسلامية. والجمهور الشعبي الملتف حول الثورة العرابية بالتأييد كانوا يسمون جند عرابي «حزب الله».
محمد علي باشا، منشئ مصر الحديثة، والمقتبس الأول من الحضارة الأوروبية في الشرق العثماني، والمتحالف سياسياً مع أوروبا الاستعمارية، حارب الدولة العثمانية باسم وحدة العالم الإسلامي في وجه المخاطر الأوروبية، أو توحيد الإمبراطورية العثمانية وولايتها المتداعية أمام الزحف الأوروبي على قاعدة الدين الإسلامي، وإلزامها بالإصلاح الشامل على النمط الأوروبي.
مصر ظلت لعقود طويلة وحتى بعد ثورة 1919، يتجاذبها تياران: تيار إسلامي ذو صبغة عثمانية، وتيار قومي (وطني) إقليمي. وقد شهدت حركة تجديد إسلامي ذات مرجعية ماضوية إسلامية. الدعوة إلى استئناف الخلافة الإسلامية في مصر بعد إلغاء كمال أتاتورك لها في تركيا عام 1924، لها في مصر تاريخ بارز لا نجد نظيراً له إلا عند مسلمي الهند. وقد شارك في هذه الدعوة سياسيون علمانيون. وقد تكررت هذه الدعوة بأن يكون الملك فاروق خليفة مرة ثانية بعد فشل أبيه الملك فؤاد في تحقيق هذا المسعى. وكان وراء الطموح إلى تتويج الملك فاروق خليفة بعض الشخصيات السياسية العلمانية.
وفي مصر نشأت في المنتصف الأول من القرن الماضي جمعيات عديدة بين المسلمين والمسيحيين واليهود ذات مرجعيات دينية ماضوية.
والتبشير المسيحي الغربي، البروتستانتي والكاثوليكي، دفع بالحزب السياسي الأكثر علمانية، حزب «الأحرار الدستوريين» أن يكون أقل علمانية، وأن يستخدم شعارات دينية إسلامية ضد حزب «الوفد» الأقل علمانية منه في الأصل. تفشت في مصر منذ ثلاثينيات القرن الماضي شعوذة «تحضير الأرواح» لدى بعض النخب العلمية والنخب الدينية والنخب الثقافية والنخب السياسية. وما حديث فضيحة تحلق بعض وزراء جمال عبد الناصر قبل وفاته وبعد وفاته حول سلّة «تحضير الأرواح» أو حول وسيط روحي بمجهول.
مصر محفل عظيم للطرق الصوفية المتعددة والمتنوعة، لكنه في محاضرته اللندنية بتفكيره عبر الرغبة العلمانية قلص من حجمها ومن تأثيرها في المجتمع المصري كثيراً، وادعى أنها تتوزع ما بين جماعات سرية وشبه سرية!
وعلى عكس ما ادعى حين همش دورها السياسي، فإن الطرق الصوفية في مصر كانت في الطور الملكي الليبرالي وفي الطور الجمهوري الاشتراكي، ذات فاعلية سياسية. وفاعليتها السياسية استمدتها من استعانة السلطة السياسية بها في هذين الطورين.
ومن المفيد ومن المسلي أن يرجع القارئ إلى ما كتبه رضوان السيد في مقاله «السلفية والهزيمة: ذكريات مصرية» الذي نشره في كتابه «الإسلام المعاصر: نظرات في الحاضر والمستقبل» عن علية القوم من وزراء جمال عبد الناصر الذين رآهم في منتصف الستينات، حين كان طالباً أزهرياً، يغشون مجلس شيخ صوفي اسمه محمد محمود علوان، ليستمدوا منه الغوث والبركة!
ومن المفيد والمسلي أيضاً أن يرجع القارئ إلى مقال صادق جلال العظم «معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان» في كتابه «نقد الفكر الديني» الذي استهله باستشهاد من قول للدكتور رؤوف عبيد، هو «أن تكرار ظهور السيدة العذراء يؤكد أن المعجزة ستستمر حتى تعود القدس عربية وتتحرر من الإرهاب الصهيوني»!
وبعدها نقل العظم تعريفاً به من جريدة «الأنوار» عنه قالت فيه: «الدكتور رؤوف عبيد، أستاذ القانون الجنائي بجامعة عين شمس، واضع أول دراسة علمية عن حقيقة ظهور العذراء في كنيستها بالزيتون»!
وأزيد هذا التعريف، فأقول الدكتور رؤوف عبيد من المشتغلين بـ«تحضير الأرواح» وله مؤلفات في هذا الموضوع. وللحديث بقية.