فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

الوثائق السورية في ميزان القيمة الفعلية والأخلاقية

استمع إلى المقالة

في آخر الأرقام التي روجت بداية عام 2024 عن الوثائق المتعلقة بالقضية السورية وتطوراتها، قيل إن العدد بلغ مليوناً وثلاثمائة ألف وثيقة. ورغم أن العدد كبير جداً، فإنه قليل مقارنة بما شهدته القضية السورية في أهميتها وحجمها، والتدخلات الخارجية فيها، وما شهدته من تطورات وأحداث في ثلاثة عشر عاماً، أصابت كل السوريين بآثارها، أياً كانت مواقفهم ومواقعهم منها وفيها.

ومما يدفع للقول، إن عدد الوثائق قليل إضافة إلى الإشارات السابقة، عاملان لا بد من التوقف عندهما، الأول أن الأحداث السورية واكبت أهم موجة في التاريخ الإنساني من التطور في علوم الاتصال والتواصل، ووفرت تقنيات بسيطة متعددة الأغراض، لتوثق وتُحفظ في أفضل الشروط فقط، وإنما تجعل من كل شخص له علاقة بالحدث السوري مرشحاً للقيام بالمهمات المذكورة. باستثناء أن تطورات القضية وأحداثها، جلبت الكثير من منظمات وهيئات دولية وإقليمية ومحلية وفي تخصصات مختلفة، إضافة إلى المشاركة في المهمات من جانب أجهزة أمنية ودبلوماسية وغيرها، تنتمي إلى عشرات الدول، وفوق ما سبق، لا بد من إضافة الدور الذي قامت به مراكز الأبحاث والدراسات، ومؤسسات الإعلام في تنوعها المرئي والمسموع والمكتوب، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي قال متخصصون في واحد منها، إن إدارة «فيسبوك» حذفت في واحدة من هجماتها على منشورات السوريين المتصلة بالثورة نحو نصف مليون مادة منشورة في أحد الأعوام، وجزء من تلك المواد توثيقي الطابع.

ذهبت في هذا الاسترسال في موضوع الوثائق السورية لأقول، إن ثمة توثيقاً واسعاً، وأكاد أقول شاملاً لكل ما جرى في سوريا وحولها في مواد مصورة ومكتوبة ومسموعة، لكن كشف الكثير منها سوف يحتاج إلى وقت وظروف، كما حدث مثلاً في مجازر الكيماوي، التي بات يعرفها الجميع، ووثائق صور قيصر، التي لم يتوقع أحد أن تكشف.

وتناول التوثيق أعمال «داعش» وشقيقاته من جماعات التطرف، فتم توثيق كثير منها، وخاصة الجرائم، التي كان هدفها الإيحاء أن جماعات التطرف، هي وجه سوريا المعارض للنظام، وقد كشفت وثائق كثيرة، أن تلك الجماعات لا تختلف عن النظام بل تتبع وتنفذ الكثير من سياساته وممارساته، ولعل بين الدلالات حالة الاستخدام المشترك من جانب «داعش» و«جيش الإسلام» في فيديوهات مصورة للأقفاص الحديدية لـ«أسرى» الجماعتين، وتقديمهم للفرجة أمام جمهور وعبر الفضاء الإلكتروني.

ومن المؤكد، أن التوثيق شمل الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا ومنطقة السيطرة المتعددة الأطراف في شمال غرب البلاد، وفي المنطقتين سياسات وانتهاكات تمارس ضد جمهور، تصفه سلطات المنطقتين بأنه جمهورها، وتتبع سياسات تتعارض مع مصالح أكثرية السكان، كما تقول الوقائع، ومنها وقائع اضطهاد أحزاب وجمهور المجلس الوطني الكردي بتهمة التبعية لـ«تركيا»، ويتم التعامل مع أكثرية عرب المنطقة باعتبارهم «دواعش» من جانب الإدارة الذاتية، أما وثائق ارتكابات سلطات الأمر الواقع في شمال غرب سوريا، فهي أكثر بكثير.

يطول الحديث عن التوثيق عن روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة وعن بلدان عربية ذات صلة، لكن الحيز المتاح لا يسمح، وكله لا يمنع من جزم، أن التوثيق السوري عمل مهم في حجمه وموضوعاته، وتتميز أهميته في بعض جوانبه، بخاصة ما اتصل منه بالضحايا الذين عانوا، وجرى توثيق معاناتهم باعتبارها جزءاً من ذاكرة سورية، تحفظ حقوق الضحايا، وتمنع تكرار مجيء نظام مشابه إلى الحكم في المستقبل.

السؤال الذي يثيره التوثيق، يتعلق بالمآل الأخير، وهو فائدته العملية وبخاصة الفائدة السياسية، التي تتضمن محاور متعددة، وأهمها توظيفه في خدمة سوريا والسوريين في الحاضر وفي المستقبل، ليس من باب تغيير النظام القائم بما جلبه من كوارث أغلبها موثق بالتفاصيل، بل أيضاً في رسم توجهات وهيكل النظام المقبل، ومن أجل اختيار أشخاص وبنى سياسية، تختلف عما عرفنا في السنوات الثلاث عشرة من شخصيات وقوى عجزت عن قيادة السوريين، وفشلت في الوصول إلى تسوية للقضية السورية في الحرب وفي السلم.

ووسط هذا المحور من التعامل مع التوثيق السوري، يمكن الاستفادة منه في مجالات عدة منها موضوع المعتقلين وإطلاق سراحهم من دون قيد أو شرط، وضرورة الكشف عن مصير من لا يعودون إلى بيوتهم وأهلهم، كما يمكن استخدام التوثيق في موضوع عودة اللاجئين والنازحين إلى بلدهم وبيوتهم، بل وإلى ملكياتهم العقارية والزراعية، التي تغيرت معالمها أو ملكياتها، ولعل بين الموضوعات ذات الأهمية للتوثيق السوري استخدامه في متابعة وملاحقة مرتكبي الجرائم ضد السوريين من الأطراف كافة، ومحاكمتهم علناً أمام القضاء، ليس فقط محاسبة على ما سبق، بل تعاملاً مع ما يحدث حالياً في مناطق سلطات الأمر الواقع، ومنعاً لما يمكن أن يلحق بالسوريين من انتهاكات وجرائم.

بقي شيء لا بد من التوقف عنده في موضع التوثيق السوري، وهو الشكل العام الذي تعاملت معه بعض قوى المعارضة وبعض المعارضين ونشطاء في المنظمات الحقوقية، وكلها لم تبلغ مستوى الحد الأدنى المقبول في ضوء الأهداف والغايات، التي كان من الممكن الاستفادة من التوثيق في تصويبها. إذا عجزت جماعات المعارضة في تصحيح مسارات أو صياغة سياسات بديلة نتيجة التدقيق في ما حصل، والأمر ينطبق على التحالفات وعلى الأحزاب والجماعات السياسية والمسلحة، ومنظمات المجتمع المدني، وكثير من الفعاليات والناشطين الذين أمسكوا ملفات مثل ملف مفاوضات جنيف وملف إطلاق المعتقلين أو اللجنة الدستورية أو آستانا، وكانوا أمثلة للفشل الذريع، وهدر الإمكانية، وكل هذا منع أن يكون للتوثيق السوري أي مكسب سياسي يتجاوز معناه الأخلاقي في توثيق ما لحق بالشعب السوري من جرائم وخراب ومعاناة تفوق حد الوصف، عمل التوثيق على تثبيت أغلبها.