سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

حرية بدون سفك

استمع إلى المقالة

لم يترك أي من الزعماء التاريخيين على بلاده الأثر الذي تركه المهاتما غاندي، الذي اغتيل في مثل هذا اليوم، عام 1948، كان يعمل محامياً في جنوب أفريقيا، وعندما مُنع من ركوب المقصورة المخصصة للبيض، قرر العودة إلى بلده الأم، وخوض معركة الاستقلال، والتحرر من الرجل الأبيض. لكن من دون عنف. سوف ينازل أقوى وأهم إمبراطورية على وجه الأرض، من دون ثورات أو «حروب عصابات» أو سواها. وسوف ينتصر. لكن بعد انتصاره سوف يغتاله واحد من حثالات الأرض الذين قتلوا أبراهام لنكولن، ومارتن لوثر كينغ، وتشي غيفارا، وأنديرا غاندي (لا قرابة عائلية).

مع استقلال الهند بدأ الاستعمار بالزوال في كل مكان، لكن أشهر زعيمين ظلا البادئ غاندي والخاتم العظيم مانديلا. كلاهما انطلق من جنوب أفريقيا التي تقاضي الآن قتلة غزة. كانت الهند والصين أكبر بلدين في العالم. وكان كلاهما مستعبداً. خلال 200 عام من الحكم البريطاني، مات حوالى 165 مليون هندي في المجاعات والأوبئة والإهمال. اختار غاندي اللاعنف، واختار ماو تسي تونغ العكس. وكلفت معركته نحو 60 مليون قتيل.

الصين اليوم هي الاقتصاد الثاني في العالم، والهند هي الخامس، وكلتاهما حققت تقدماً إعجازياً في السنوات الأربعين الماضية. حافظت الهند على النظام الديمقراطي الذي تركه رفاق غاندي، وانتقلت الصين مع كسياو بنغ إلى اقتصاد حر يحميه الحزب الشيوعي. والتجربتان مستقرتان.

مع انتقال الدولتين إلى هذه المكانة، رجحت كفة آسيا بين القارات. وبعد سبات طويل وتخلّف وذل الاستعمار قد تصبح آسيا قارة المستقبل، للمرة الأولى في تاريخ البشرية. تتقدم الهند، الصين، الآن في معدلات النمو بنسبة 3.5 في المائة، ولم يعد التقدم الآسيوي حكراً عليهما، بل امتد إلى دول غير رئيسية مثل إندونيسيا والفلبين وبوتان.

قد يصبح القرن الحالي هو «القرن الآسيوي»، مثلما كان السابق «القرن الأميركي». مسيرة بلا توقف. غير أن «المقاومة السلمية» لم تحل كل المشكلات: الصين تهدد تايوان بالضم بالقوة، وكوريا الشمالية تهدد الجنوبية برشقة من الصواريخ النووية، والمثال الأعلى هو في روسيا حيث يهاجم فلاديمير بوتين أوكرانيا كل يوم. حكاية القوي والضعيف لم تتغير منذ أيام لا فونتين: «منطق الأقوى هو دائماً الأفضل». والضعفاء لهم لجان حقوق الإنسان، والجمعيات الخيرية، و«أطباء بلا حدود».

أوحت فلسفة غاندي بقانون بلوغ الحرية دون عنف. وقامت من وحيه حركة «عدم الانحياز». لكن سفك الدماء وشربها ظل الحل المفضل. مقابل غاندي واحد، هناك عشرون سوهارتو. وكما استعادت الهند ولاية غوا البرتغالية بالقوة، هكذا ستفعل الصين في تايوان، لن تستطيع استعادتها بالهدوء، كما فعلت في هونغ كونغ.

يعد المتطرفون العرب «الغاندوية» تهمةً من الجبن والضعف. ومنهم من يرى فيها مؤامرة من سلسلة المؤامرات التي تدعو إلى الاستقلال من دون آلاف القتلى، ومئات آلاف المعاقين والفقراء والجائعين. وتلتقي إيران وأفغانستان حول أن القضية الأولى هي نوع الحجاب. أما في نيجيريا فالقضية هي تحريم القراءة (بوكو حرام) وهو جهل مطبق بـ«وصيّة»، اطلبوا العلم ولو في الصين.