مثال رجاء النقاش الثالث، «تطوير الدراسة في الأزهر، بحيث يدرس الأزهريون العلوم الحديثة من رياضة وهندسة وكيمياء وطبيعة وجغرافيا وما إلى ذلك هو أيضاً خروج على الدين، ينبغي معارضته ورفضه والوقوف في وجهه».
ما ذكره رجاء النقاش هنا سببه ممانعة ذاتية ومقاومة من قبل جامع الأزهر لأي تجديد وتطوير له. فهو الذي فرض على نفسه أن يكون بمعزل عن التطورات الحديثة الجارية في مصر منذ القرن التاسع عشر. وتزمته وانغلاقه على نفسه متحدر إليه من عصور الجمود والركود الإسلامي التي سبقت القرون الحديثة بقرون كثيرة.
إنَّ رجاء النقاش في الأمثلة الثلاثة زجَّ بالاحتلال البريطاني لمصر فيها بوصفه سبباً وعلة، مع أنَّه ليست له يد ولا إصبع فيها.
إنه يعتقد في مثاله الأول وفي مثاله الثاني وفي مثاله الثالث، أن التزمت الاجتماعي والتزمت الديني من نوازل الدهر التي هبطت على مصر في بداية القرن العشرين، وأن علته الأولى ومسببه الرئيس هو الاحتلال البريطاني لمصر، وأن عام الاحتلال 1882 هو عام جذره وأسّه. مع أن للتزمت الاجتماعي وللتزمت الديني تاريخاً طويلاً ومتصلاً في المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية والمجتمعات الإسلامية. ويجب ألا نغفل في هذا المقام أن المجتمعات الأوروبية حتى في عصور تقدمها ضربت بسهم وافر من ذلك التاريخ.
الخطأ الخامس، هو قوله: «وإذا عدنا إلى فترة أبعد في تاريخ مصر فسوف نجد أنها في سنة 1910 وسنة 1911 قد تعرضت لفتنة طائفية خطيرة أوشكت أن تشعل حرباً أهلية حقيقية بين المسلمين والمسيحيين».
الحيز الزمني الذي رآه رجاء النقاش مناط تعليل ظهور إسلاميات هيكل وطه حسين والعقاد، هو الثلث الأول من القرن العشرين، فخلتُ أنه في جملته التي افتتح به قوله السابق، سيعود بنا إلى سنوات تعود إلى أخريات القرن التاسع عشر أو إلى منتصفه. فالفتنة الدينية أو الطائفية بين المسلمين حصلت في مفتتح الحيز الزمني الذي حقّب به تعليله.
الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر، بدأت عام 1908 وليس عام 1910 عام اغتيال بطرس غالي. وكانت ذروتها «المؤتمر القبطي»، مؤتمر «المطالب القبطية» الذي أصرَّ الأقباط على عقده في أسيوط لا في القاهرة في 6 مارس (آذار) 1911، وتمكن «المؤتمر المصري» الذي عقد في القاهرة من 29 أبريل (نيسان) إلى 4 مايو (أيار) 1911، من أن يعبر بمصر من أتون المحنة العظيمة التي مرت بها إلى بر الأمان وتجديد عرى الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط.
كنت في المقال السابق، قد قلت عن تعليل رجاء النقاش الثاني لظهور إسلاميات هيكل وطه حسين والعقاد، أنه ينفرد بخطأ يستقل به عن أخطاء تعليله الأول وتعليله الثالث.
هذا الخطأ هو أنه في تعليله الثاني ذكر من بين أسباب ظهور إسلاميات أولئك الثلاثة بروز جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر.
لويس عوض في محاضرته «التطور الثقافي في مصر منذ 1952» التي ألقاها بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد عام 1971، في تعليله لظهورها أفراد جماعة الإخوان المسلمين بهذه السببية، كما مر بنا في المقال ما قبل المقال السابق.
وقبلها بأعوام، عام 1966 في محاضرة عنوانها «التطورات الثقافية والفكرية في مصر منذ عام 1952» ألقاها في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، قال بتلك السببية أو التعليل.
وخص بهذه السببية أو التعليل إسلاميات العقاد في مقاله «موت هرقل» الذي كتبه بعد وفاة العقاد في 12 مارس 1964. وأعاد نشره في كتابه «دراسات عربية وغربية» الذي صدر عام 1965. يقول في مقاله الرثائي هذا، الكثيف بالمعلومات وبالتحليلات عن العقاد: «ثم هوى بهراوته على الشمولية الدينية التي يسمونها الإخوان المسلمين أيام ما كان الإخوان يدسون القنابل في السينمات ويكدسون السلاح ويتأهبون للاستيلاء على الحكم بقوة الإرهاب، فشن عليهم حملة ضارية في أعقاب الحرب صورهم على أنهم شيعة دخيلة على الإسلام من يهود تركيا الذين دسهم نبيهم المزيف شبتاي على الدولة الإسلامية. ولم تكن إسلاميات العقاد الكثيرة إلا أسلحة وذخيرة في هذه المعركة المريرة مع الإخوان المسلمين، وكأني به أن يريد أن يقول للعالم الإسلامي: لا تصدقوا هؤلاء المتهوسين، فهذا هو الإسلام الصحيح».
ثم راح يسرد أسماء كتب العقاد الإسلامية من عام 1942 إلى عام 1957، مع ذكر أعوام صدورها.
على أهمية مقالات العقاد الخمس في نقد الإخوان المسلمين المنشورة في جريدة «الأساس» التابعة للحزب السعدي المنشورة ما بين عامي 1948 و1949، التي في أجزاء كثيرة منها أصاب المحز في نقدهم، فإنه لم يقم بذلك – كما ذهب لويس عوض في مقاله الرثائي عن العقاد – كجزء من حربه على الشمولية اليمينية، المتمثلة في النازية والفاشية، وعلى الشمولية المادية، المتمثلة في الشيوعية، نظراً لأن آيديولوجيتهم مثل هذه الآيديولوجيات الثلاث قائمة على آيديولوجية شمولية حصرية أوتوليتارية.
فهو قام به – وهذا لا يغض من شأن نقده لهم – بوازع سياسي حزبي مؤقت وطارئ. وأحيل لمعرفة ما أقصده إلى فصل «العقاد والإخوان المسلمون» في كتاب رجاء النقاش «عباس العقاد بين اليمين واليسار».
ويعيب نقده لهم الشطط في التحامل الديني والعرقي عليهم حين سعى إلى تهويدهم عن طريق يهود الدونمة، وتهويد زعيمهم حسن البنا عن طريق يهود المغرب بتحليلات متكلفة وبتفسيرات متعسفة.
في سرد لويس عوض لكثير من كتب العقاد الإسلامية أورد اسم كتابه «عبقرية المسيح» الذي ذكر أنه صدر في عام 1953. هذا الكتاب لا يدخل ضمن نطاق الدراسات الإسلامية أو الإسلاميات، بل يدخل في نطاق الدراسات المسيحية أو علم المسيحيات. فالعقاد لم يكتب هذا الكتاب من منظور الديانة الإسلامية حرفياً.
فالذي يكتب في علم المسيحيات ليس شرطاً أن يكون مسيحياً. وكذلك هو الأمر في الكتابة في علم الإسلاميات، ليس بالضرورة أن يكون مسلماً. ونذكّر هنا أن علم الإسلاميات أنشأه مسيحيون غربيون.
العقاد في مجال علم المسيحيات ليس له سوى كتاب واحد، هو «عبقرية المسيح» الذي نشر في دار «أخبار اليوم» عام 1953. وأعاد طبعه عام 1958 في «دار الهلال» مع الزيادة فيه بعنوان مختلف هو «حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث»، لاعتراض طوائف مسيحية عبر كتاب منها على وصفه للسيد المسيح بالعبقرية. إذ ذهبوا إلى أن وصفه بالعبقرية، يقتضي – كما في معتقدهم المسيحي – نفي «ألوهيته».
فعلى سبيل المثال هاجمه جبرائيل مالك اليسوعي في مجلة «المشرق» الكاثوليكية في لبنان هجوماً دينياً مسيحياً شرساً – كتبه وهو يرعد من الغضب – فقال: «أما هذا الكتاب – كتاب (عبقرية المسيح) للسيد عباس محمود العقاد – فلا هو كتاب إيمان وتقوى ولا هو كتاب علم وتاريخ. بل يبتسم القارئ المثقف – ولا نقول إنه يحزن أو يشمئز – عندما يقرأ العنوان وفيه ما فيه من التناقض البين: فالمؤمن بالمسيح، أي بألوهية يسوع، لا يقبل له صفة عبقرية بشرية نسبية لا تليق بالله. ويبتسم القارئ المثقف – ولا نقول إنه يحزن أو يشمئز – عندما يقرأ مثلاً في كتاب مكتوب باللغة العربية، عن (جيسس أسقف أورشليم) ص82: فكل من درس أو قرأ الأناجيل في ترجمتها العربية يعلم أن لتلميذ يسوع المذكور اسماً شائعاً في العربية، وهو يعقوب... وقس على ذلك... ويظهر أن المؤلف اكتفى بقراءة بعض الكتب، باللغة الإنجليزية لبعض الكتاب من العقليين الغربيين، وأخذ بعض أفكار منها، دون معرفة ترجمة بعض الألفاظ والأسماء التي وردت فيها».
وبعد أن حقّر الكاتب المسيحي الكاثوليكي العقاد وازدرى كتابه، انتهزها فرصة ليرشد القارئ المسيحي على كتب إيمانية وتقوية مسيحية صراطية، كتبت بلغات مختلفة عن السيد المسيح، لكي تعصمه من الضلال العقلي والغواية العلمانية!
في إحدى زيادات الطبعة الثانية، وكانت بعنوان «تفسيرات من فلسفة التاريخ» خصّ العقاد ناقده جبرائيل ــ الذي استغل خطأ طباعياً في كتابه اسم جيمس أسوأ استغلال - برد.
الكتاب الذي كتبه مسلم عن المسيح وحظي باستقبال جيد عند المسيحيين العرب، هو كتاب «قرية ظالمة» لمحمد كامل حسين، وهو الكتاب الذي صدر عام 1954.
لقد قرأت مقالاً لكاتب صحافي قبطي، كتبه بمناسبة صدور كتاب «عبقرية المسيح: المعركة المجهولة بين الأقباط والعقاد... وثائق تاريخية» لروبير الفارس، قال فيه: «كما يسجل (يعني روبير الفارس) أن المتشددين اتهموا العقاد باعتناقه المسيحية في السر، وهو ما رد عليه العقاد بقوله: هل إذا كتبنا عن أديان الأمم، وجب أن ننتقل فيها من دين إلى دين؟!». وبما أنني لم أحصل على هذا الكتاب، لكي أتثبت من أن هذا الكلام من كلام روبير فارس أم من كلام هاني لبيب، أكتفي بأن أحكم على قائله بأنه تعلم قراءة النص على طريقة كتاب «كيف تتعلم الإنجليزية في سبعة أيام»!
نص ما قاله العقاد في زيادة أخرى في الطبعة الثانية، كان عنوانها «رد وتعقيب» هو: «ولا نعلم أن منهجنا في الكتابة عن السيد المسيح يقتضي منا أن ندين بالمسيحية أو ندين بجميع مذاهبها في وقت واحد. ولم يقل أحد، إننا إذا كتبنا عن برهما وجب أن نكون برهميين، أو كتبنا عن أديان الأمم وجب أن ننتقل فيها من دين إلى دين...».
إن العقاد في هذا النص يجادل – بصورة عامة – نقاد كتابه في طبعته الأولى، الذين هم مسيحيون متدينون من طوائف ثلاث: أرثوذكسية، وكاثوليكية، وبروتستانتية، ولا يتكلم عن «المتشددين» المسلمين. وللحديث بقية.