يبدو أن خرائط العالم القديم، لا تزال غارقة في حروبها المزمنة، وتداعياتها مستمرة من دون إشارة إلى محطة النهاية، والعالم القديم الذي أعنيه هو الأوراسيا، أي أوروبا وآسيا، وبعض أجزاء من الشرق الأوسط، ومن يملك الأوراسيا يسيطر على مفاتيح العالم.
والصراع الآن يدور على أراضي الأوراسيا مع استبعاد العالم الجديد غير الأوراسي، كقارة أميركا الشمالية، والجنوبية، وأستراليا. إذن عود على بدء، فإن الحروب في الأوراسيا قديمة وسحيقة جداً، حروب موروثة تظهر حيناً وتختفي أحياناً، سواء أكانت حروباً إثنية أم عرقية أم دينية أم غزوات من أجل تمدد النفوذ، كما عرّفنا التاريخ بالإمبراطوريات: الصينية والرومانية والإغريقية، والروسية، والمغولية، والإسلامية في طبعاتها المتعددة، وذلك من دون ترتيب، وصولاً إلى القوى الحديثة الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والفرنسية، لكن المفاجأة أن هناك قوة تجيء من خارج الأوراسيا، هي الولايات المتحدة الأميركية، أو ما يسمى بالأراضي الجديدة، وتريد أن تكون صاحبة الحلم والسيطرة على خرائط العالم القديم (الأوراسيا).
لا شك في أن غزة كمسرح عمليات صغير، تمثل نموذجاً لهذه الحروب المزمنة على حافة الأوراسيا، فهي تشتبك مع كل تعقيدات العالم العقائدية والثقافية الموروثة، فما يجري هناك من شلالات دم ومجازر وحشية، وانتهاكات لحقوق الفلسطينيين من قبل إسرائيل، ليس بجديد عن الجولات السابقة، التي دارت على نفس الأرض منذ قرون طويلة، لا أريد أن أعود إلى معارك الإسكندر الأكبر في نفس الأراضي، ولا الحملات الصليبية المتتالية، وصولاً إلى السيطرة العثمانية والبريطانية، وأخيراً الإسرائيلية الاستيطانية، فكل أطراف هذه المعادلة تنتمي جميعاً إلى ما يسمى أراضي الأوراسيا، لكن الجديد هنا أن من يدير هذه المعارك تسليحاً وترتيباً ومساعدة هي الولايات المتحدة، رغم أنها لا تنتمي إلى ما أسميناه بالأوراسيا. فمن دون شك أن طرفي الصراع لا يمكن اللقاء بينهما بالمطلق، فالفكرتان تنبعان من تصورات مختلفة تماماً بين الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، والمستوطنين الإسرائيليين القادمين من شتى بقاع العالم. وفي الحرب الحالية يتراجع مفهوم القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربع، الخاصة بكيفية التعامل مع المدنيين أثناء الحروب، لصالح مفهوم جديد، تحت عنوان «الاستثمار الذكي في الحروب» حسب فلسفة الرئيس الأميركي جو بايدن في خطابه في 19 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وكان يتحدث في خطاب متلفز إلى الأمة الأميركية، يطالب فيه بالدعم الكامل لإسرائيل في حربها على غزة، ولأوكرانيا في حربها مع روسيا.
إذن أميركا في طريقها إلى الأوراسيا، وتعمل على إدامة الحروب القديمة المزمنة، وكلما خفتت أعادتها للاشتعال مرة ثانية، وهنا أستطيع القول: إن القضية الفلسطينية عبر التاريخ، كانت ضحية الصراع الغربي مع المسألة اليهودية، الذي انتهى بإقامة دولة لهم على الأراضي الفلسطينية العربية، على حساب الشعب الفلسطيني الأصلي، وكذلك وقعت القضية الفلسطينية ضحية لأحلام أصحاب فلسفة الاستثمار الذكي في الحروب.
إذا انتقلنا من غزة في قلب العالم العربي، بمحمولاتها الدينية والثقافية والحضارية إلى تخوم القيصرية الروسية، قطعاً سنتوقف أمام التشابه الواضح في أحلام أميركا، وبين إسرائيل وأوكرانيا، فمن المعروف أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى عرق واحد هو العرق السلافي، واعتقاد واحد هو المذهب المسيحي الأرثوذكسي، وتاريخياً فإن الشعبين يختلطان ببعضهما البعض، باستثناء فوارق طبيعية توجد في أي بلد في جنوبه أو شماله، لكن هذه النعرات البسيطة تحولت إلى موانع ضخمة لدى الطرفين، وصلت إلى الحرب، بتغذية كاملة من «المشتري الجديد» للأوراسيا، أي الولايات المتحدة، ونحن نعرف أن من يسيطر على خط باريس - كييف، فهو يسيطر على قلب الأوراسيا بمحمولاتها الفكرية والثقافية والدينية والحضارية، لذا فإن أوكرانيا في وجهة نظر أصحاب الأحلام هي، نموذج حي وناجح في ما يسمى الاستثمار الذكي للحروب، للوصول للأهداف الأميركية، التي ستصل إلى نهاية الشوط مرة واحدة وللأبد، كما قال بريجنسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى».
أيضاً نجد أن رقعة هذه الحروب المزمنة، يتم إحياؤها من جديد في نفس أماكنها القديمة، فثمة صراع بين الصين وتايوان، وهذا الصراع يشكل عبئاً على استقرار آسيا بالكامل، ويستدعي عداوات ما بين حلفاء الغرب والصين، هؤلاء الحلفاء لديهم صراعات موروثة أيضاً، منذ حقب طويلة كاليابان والصين، وكوريا الجنوبية، والفلبين... وغيرها. لكن اللافت للنظر أن هذه العداوات يتم إيقاظها بين حين وآخر، ليصبح العالم القديم في عهدة الزلازل السياسية، بما يحقق رغبة وأحلام أصحاب العالم الجديد الراغب في السيطرة على الأوراسيا.
إذن وسط هذه الفلسفة الأميركية التي تقوم على الاستثمار الذكي في الحروب، واستدعاء التاريخ الدموي والجغرافيا المتصادمة، فقد باتت خرائط العالم القديم منهكة وفي قبضة الحروب المزمنة، ومن ثم، فلم يعد هذا العالم يحتمل رفاهية الاستمرار في هذه الحروب المزمنة هذه، وبالتالي فلا بد من فلسفة جديدة، توضع في أوان جديدة من أجل استفاقة شعوب العالم القديم من هذا الميراث الثقيل، والبحث عن تعاون شامل وحقيقي، ينهي ميراث الحروب الدموية، الذي يغذيه طرف ليس من سكان الأوراسيا.