«كبعض البشر، الحمام يَلْحَق كل من يُطعمه. لذا يمكن الإمساك به من دون عناء... الحَمام طائر لا صوت له، اختار أن يأكل. ولأنه بالفطرة جبان لم يشارك يوماً في معركة، ولم يأخذ موقفاً من أي خلاف. هو متفرجٌ محايد، لا يعنيه أن يفهم ما يحدث، وأقصى غايته أن يتابع تحركات الجميع، ليضمن النجاة بريشه قبل وقوع الحدث»! هكذا صوّرت الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي جزءاً من موقف الحياد في روايتها الجديدة والبديعة «أصبحتُ أنتَ».
عندما يتخذ المرء موقفاً محايداً، يهاجمه الطرفان المتنازعان لكن الأكثر ضراوة مَن خسر المعركة. هل هي محاولة لتعليق شماعة تقصيره وتهوره على المحايدين؟ لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، لماذا يجد المحايد نفسه في موقف الدفاع عن خياراته.
أرى أن من حق الإنسان أن يلتزم الحياد في أحداث العالم. فليس مطلوباً منه إظهار موقف في كل شاردة وواردة، خصوصاً في قضايا الشأن الداخلي وحالات الاصطفاف. تعلمنا في العمل السياسي أن يصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، والسبب قضية خلافية عابرة، دفع ثمنها العوام ممن انجرفوا في دوامة الخصومة والإقصاء.
من حق الموظف أن يلتزم الحياد في معارك العمل الصغيرة ما دامت لا تمس أمانته وقيمه. والشللية عمى بصيرة تنافي المهنية وهي عكس الحياد. من حق الإنسان أن يكون مستقلاً عن التيارات، والأهواء، والصراعات الهامشية. فليس كل منازلة ينطبق عليها مقولة المصريين: «اللي يِحِبْ النبي يِضرَب»!
تعلمت في التحكيم التجاري، أن أمهل كمحكم الطرفين المتخاصمين الفرصة نفسها من الإصغاء الجاد بقصد الفهم، وتجنب المواقف المسبقة، والتعامل الحيادي مع الأدلة من دون تحيز. والأهم التحفظ في التعليقات. وهذا ما يجعل القاضي حذراً جداً في تعليقاته ويومياته وعلاقاته. وهذا دليل على أن من الحياد ما هو مطلوب لتحقيق العدالة.
من الحياد ما يُنزَع به فتيل الأزمات. ففي مجال التفاوض، يعد الحياد مكوناً أساسياً لجهود الخروج من عنق الزجاجة. المفاوض النزيه يتجنّب التحيزات أو الميول الشخصية ويعمل وسيطاً محايداً يركز على مصالح جميع الأطراف. هذا يساعد في بناء الثقة ويفتح المجال لتسوية أكثر إنصافاً وفاعلية.
وفي السياسة، نجت سويسرا من ويلات الحرب العالمية الطاحنة بسبب حيادها، وما زال رصيدها الحيادي سبباً في جعلها ملاذاً لرؤوس الأموال المهاجرة، وكذلك السويد، فأصبحتا مركزين للدبلوماسية والوساطة والتجارة. وقد اضطرت عشرات البلدان إلى إطلاق منظمة عدم الانحياز رداً على تصاعد المواجهات بين المعسكر الأميركي وحلف «الناتو» والاتحاد السوفياتي وحلف وارسو إبان الحرب الباردة.
تخيل شعورنا عندما تعلن منظمة الهلال الأحمر عن موقف منحاز في قضية سياسية أو استقطاب في الشأن المحلي، لا بد أن تهتز صورتها، وهذا ما حدث أيضاً في عالم «البزنس» مع «ستاربكس» عندما شهدت مقاطعة في بلدان عدة بسبب ما فسّره عملاؤها المسلمون من انحيازها ضد قضاياهم في صراع الشرق الأوسط. في عالم «البزنس» تقتضي المصلحة الحياد. أي عدم خوض معارك بالوكالة، وهذه هي قواعد اللعبة.
وقد يرى البعض في الحياد نقيصة عندما لا يهب لنجدة معتدى عليه. ولذلك ينسب للإمام علي بن أبي طالب أنه عاتب أهل الحياد، فقال: «لم تنصروا الباطل ولكنكم خذلتم الحق». غير أنه لا يحق لمن أشهر سلاحه في وجه الأبرياء أن يطلب الحياد.
بصورة عامة، يمكن القول بأن الحياد خيار لا بد من احترامه. فمثلما يدافع المحايدون عن حقوقك في التعبير فمن حقهم اتخاذ الموقف الذي يرونه مناسباً. المحايد ليس جباناً بالضرورة، فقد تثبت الأيام أنه كان عين الحكمة.