راهنت بعض الفصائل الفلسطينية على «وحدة الساحات»، فافترضت أنّ «حزب الله» سينخرط، وأنّ إيران لن تتخلّى، ولن تتركها في مواجهة عسكرية ضارية مع إسرائيل. لكن سرعان ما فوجئت بما فعلته طهران وما لم تفعله.
ورغم استحالة ادعاء إيران جهلها بأبعاد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) رغم كمية ونوعية الأسلحة والتدريب الذي وفرته لمقاتلي الفصائل، تنصلت طهران و«حزب الله» في كواليس الوساطات الدبلوماسية، من علاقتهما بما فعلت هذه الفصائل.
إذن، وفي أحسن التقديرات، أتاحت طهران ما جرى، ثم انكفأت!
فما الذي يقف وراء هذه البراغماتية الإيرانية؟
أولاً، أيقظ الردع الاستراتيجي الأميركي براغماتية النظام الإيراني. وبعد عقود من سعيها لإخراج الأسطول الأميركي من الخليج، لا ترتاح إيران لعشرات القطع البحرية الأميركية تتبختر أمام شواطئها، خاصة وهي تعلم أنها ستبقى لسنوات. ثانياً، تشير التقارير الإيرانية إلى أن التجربة العملية للسلاح الإيراني في أوكرانيا أثبتت أنه بدائي للغاية، فما يصلح من سلاح في حرب الميليشيات، يصبح ألعابا نارية حين يجد الجد بين الجيوش. ثالثاً، تعطي طهران أولوية لاكتمال برنامجها النووي، لذلك لن تخاطر بتوسيع الاشتباك. رابعاً، تنظر طهران بشغف إلى المليارات التي ستتاح في حال تخفيف العقوبات، مكافأة «لصبرها الاستراتيجي»، في وقت تجلس قيادتها على أتون من المشاكل الاجتماعية وصراع الأجيال. خامسا، «حزب الله» هو جوهرة التاج في معادلات الردع الإيرانية، وهو أثمن بكثير من أن تغامر به من أجل غزة.
رصدت الإدارة الأميركية هذه الأجواء في طهران، حيث ترْجَحُ كفة «الواقعية السياسية» على المزايدات الآيديولوجية، وحيث يتعمق الفصام في شخصية في القيادة الإيرانية بين د. جيكل الدبلوماسي المفاوض العقلاني الدمث، وأقصى أشكال العدوانية والعصبية العقائدية للمستر هايد الإيراني.
من جهته تبدل «حزب الله» أيضا. وها هو يعطي الضوء الأخضر لترسيم الحدود البرية مع إسرائيل حسب المقترحات الأميركية. مع ما يحمله ذلك من تداعي ذرائع سلاحه واعترافه بحدود الطرف الآخر. بل تتسرَّب من الضاحية تصريحات معتبرة عن احتمال موافقة الحزب على الانسحاب فعليا حتى شمال الليطاني، وتطبيق ما أجبر على قبوله في القرار 1701.
لكن البعد الأعمق في موقف الحزب، ينجم عن التحول العضوي في بنيته. صار «حزب الله» جزءاً عضوياً من الشبكة المالية الدولية لـ«الحرس الثوري»، الممتدة من جنوب شرق آسيا، وصولا إلى فنزويلا. تتداول هذه الشبكة بكل شيء، بدءاً من المعادن الثمينة، إلى الألماس والبتكوين، إلى كل ما لذ وطاب من بضائع السوق السوداء واقتصاد الظل.
ومثلهم مثل كل الثوريين الذين يطول قعودهم، يتصاعد التناقض بين د. جيكل البراغماتي المنفعي والمستر هايد الثوري العقائدي، خاصة بعدما تتماهى حسابات السلطة بحساباتهم، وأموال الثورة ومصالحها، بجيوبهم وممتلكاتهم، لتسود الحكمة و«البراغماتية».
فكيف يغامرون بالإوزة التي تبيض ذهباً إن تورطوا بإشعال الإقليم؟
لكن منطق الدكتور جيكل في طهران لا يزال أسيرا لمعطيات طواها الزمان، وما عادت قابلة للصرف!
أولها أن إيران لم تدرك بعد مقدار تداعي الثقة في العلاقات الغربية معها. فبعد عقود من التواطؤ بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، بينت أحداث السابع من أكتوبر فساد هذا التواطؤ، وأنه لا يمكن إسناد أمن واستقرار إقليم بهذه الحساسية، لصفقات يعقدها، في الظل، رجال الاستخبارات الغربية والإيرانية. وبعدما ارتاحت إيران طويلا لاستراتيجية إسرائيل في «قص العشب»، والاحتفاظ بالجمر على لهب منخفض، صار التواطؤ خطرا جديا على إسرائيل ذاتها. ثانيها، لم يعد يمكن لطهران أن تحلم بعودة الاتفاق النووي في أي مدى منظور، وجل ما يعرض عليها هو مكافآت على سلوكها «المسؤول» و«الحميد».
ثالثاً، إذ تمضي الدول العربية في عمليات معقدة لاستعادة زمام المبادرة الاستراتيجية والسياسية في الإقليم، تستمر مفاوضات السلام اليمنية رغم الأزمة في البحر الأحمر. بل تجهد طهران بالبحث عن فرص للتفاهم مع دول الخليج العربي، ليغيب عن خطاب الرئيس إبراهيم رئيسي في القمة العربية الإسلامية، التمجيد لأحداث 7 أكتوبر، وتوافق إيران بوضوح على البيان المشترك الذي ناصر حل الدولتين. دولة لإسرائيل وأخرى للفلسطينيين. بل لم يشترط رئيسي الإشارة لأي دور لـ«حماس» بعد الحرب في غزة. رابعا، لفترة طويلة كان مضمون صفقة قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل، استبعاد أي دور عربي في المعادلة الإقليمية. لكن سبحان مُغَير الأحوال! تمسك الرياض والقاهرة بزمام جهود السياسة والدبلوماسية لمعالجة مأساة غزة، فيما لم يطرق أحد باب طهران إلا تحذيرا وتهديدا من فوق الطاولة ومن تحتها. خامساً، لعل طهران ستدرك أنه ما إن يتوقف القتال أو يتخامد، حتى ينفرط عقد أوراقها السياسية الإقليمية. فلا مصداقية لمقولاتها «بتحرير لفلسطين» ولا «بنصرة المستضعفين». فمن كان يريد فعلا إقران القول بالفعل، يمكنه أن يفعل ذلك والأتون في أوجه. أما بعد تخامد القتال، فلن يجدي «حزب الله» ولا «الحشد» ولا «الزينبيون» إلخ... التبجح بنصرة فلسطين ولا مقارعة «الشيطان الأكبر». سادساً، بغض النظر عن مصائر الانتخابات الأميركية، وبعد أن وُضِع المسؤول السابق عن الفريق المكلف بالملف الإيراني في إدارة أوباما وبايدن تحت إجازة مفتوحة، وبعد إيقاف تصريحه الأمني، بسبب الكشف عن شبكة يديرها «الحرس الثوري» داخل أوساط المستشارين المقربين، تفقد طهران إحدى أرفع أدواتها التي عملت عليها منذ 2014. سابعاً، بعد حرب غزة انكسر المزراب بين إسرائيل وروسيا، ولم تعد طهران تستفيد من دور روسيا «كوسيط قوة» لضبط الصراع. بل يعلم «حزب الله» أيضا أن إسرائيل، وليس هو، هي التي ستحدد الآن فيما إذا كانت ستفتح جبهتها الشمالية أم لا.
لذلك، ورغم المؤشرات الواضحة على مساع أميركية لتبريد الموقف الإيراني ببعض المغريات، تنظر إيران بقلق جدي لحصادها الاستراتيجي بعد أحداث غزة.