ثمة شعور عارم في الغرب بأن الديمقراطية عاجزة عن حل مشكلاته، وأن ربع الناخبين في بريطانيا، حسب استطلاع للرأي، يفضلون حاكماً مستبداً. ويبدو أن هذا الشعور يجتاح العالم، بدليل أن الحكومات الديمقراطية في تناقص، ونظيراتها الاستبدادية في ازدياد، ولا عجب أن نرى الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني تشي جينبينغ يقولان: إن الديمقراطية الغربية فاشلة، وإن نموذجيهما هما الأقومان؛ والأغرب أن عدداً كبيراً من مواطني الغرب ينظرون بإعجاب لهما، ونرى كذلك أن دونالد ترمب يتباهى، خلال خطاباته، أنه سيكون مستبداً فقط لمدة يومين إن وصل للرئاسة ثانية، لأنه سيغير خلال تلك المدة القصيرة طبيعة المؤسسات الديمقراطية لتكون في خدمته وليس خدمة الشعب الأميركي.
هنا نحن أمام معضلة كبرى تتمثل بأن الحرية تُولد نقيضها، وأن الناس في بحثها عن حل تختار حلاً يعمّق أزمتها. لكن السؤال الحتمي: لماذا يختار المواطن الحر حكومة تحرمه من حريته؟! ولماذا ينقلب على ديمقراطية دفع أجداده أثماناً باهظة لتصل إليه بلا تعب؟ الجواب حتماً يعود لانتصار الاقتصاد على السياسة. فالمواطن الغربي الذي عاش الديمقراطية الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية يرى بأم عينيه أنها لم تعد توفر له ما كان ينعم به من رفاه اقتصادي، ومن استقرار واطمئنان. ففي بريطانيا التي تحتل المركز السادس في الترتيب الاقتصادي العالمي يعتمد فقراؤها على بنوك الطعام التي يموّلها محسنون؛ ويحتاج المواطن، في بريطانيا، ومثلها في ديمقراطيات الغرب، إلى انتظار نصف سنة ليجري عملية جراحية، وأن يستدين أبناؤه ليدخلوا الجامعات، ولا يجد كثير من أصحاب المداخيل المتدنية بيوتاً سكنية للعيش، ويعيش العمال تراجعات كبرى في حماية حقوقهم.
هذا التبدل يعود إلى النظام النيوليبرالي الذي طبّقته رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر وريغان في السبعينات، وجوهره يتمثل بتغيير التركيبة السياسية بإعطاء الأفضلية للسوق على السياسة. فالسوق يجب أن تُطلق لها الحرية وألا تُقيد لكي تتمكن من خلق وظائف العمل، وزيادة الإنتاج، ورفع مستوى رفاه الأفراد. هذه النظرية تستدعي حتماً إزالة القوانين المقيدة لرأس المال، وانسحاب الدولة من موجباتها في تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمواطن واستبدالها بمنافع غير إلزامية تمنحها السوق أو تسحبها متى شاءت؛ بذلك يصبح المواطن العامل بلا حماية من الدولة ولا من النقابات التي أضعفتها كثيراً ثاتشر؛ لاعتقادها أنها تعرقل حركة أرباب العمل، وترهقهم بالتزامات مالية مثل زيادة الأجور بمستويات عالية تحت التهديد بسلاح الإضراب. كما خصخصت ثاتشر أملاك الدولة العامة، مثل شركات الهاتف والماء والطاقة، وغيرها من مصانع ومؤسسات وحولتها أسهماً يشتريها المواطن بسعر أقل بكثير من سعر السوق؛ بهدف تحويله إنساناً اقتصادياً يضارب في السوق ويندمج فيها. لكن هذا المواطن باع تلك الأسهم بسرعة وبثمن أعلى نسبياً لشركات كبرى وبنوك وصناديق تحوط، وبذلك تحولت تلك الأملاك العامة، التي كانت تضمن له سكناً معقولاً، وعملاً دائماً، وحقوقاً ثابتة، مؤسساتٍ خاصة تتزايد أرباحها من خلال إنقاص حقوق العمال، وتخفيض سقف الضريبة، وتخزين الفائض المالي وترحيله إلى جزر مالية لا تطاولها أيدي رجال الضريبة. هذا التوجه ترتب عليه تناقص مالية الدولة، وتراجع خدماتها العامة. واستناداً إلى منظمة «أوكسفام» الخيرية في تقرير لعام 2023، وجدت أن نسبة 1 في المائة من الأغنياء في العالم نالوا ثلثي الثروات المحققة في عام 2021 وتقدر بنحو 42 تريليون دولار، ووجدت أن أصحاب المليارات زادوا ثرواتهم بمقدار 2.7 مليار دولار يومياً؛ وأكدت المنظمة أن مجرد فرض ضريبة 5 في المائة على هذه الثروات المالية سيوفر 1.7 تريليون دولار، وهو مبلغ كافٍ لانتشال بليوني إنسان من دائرة الفقر. وهكذا فإن المعادلة تصبح واضحة: إطلاق يد رجال المال، وتمكينهم من الثروات، سيؤدي إلى تناقص محاصيل الدولة، وستضطر الحكومة إلى الاستدانة من السوق لتغطية العجز المالي؛ أي تستدين من رجال المال أنفسهم، وبمعدلات فائدة يقدرونها بشروطهم ووفق تصورهم للمخاطر.
هذه النيوليبرالية لا تتأتى من فراغ، بل من قناعة آيديولوجية أن الفرد محور الاهتمام، وأن المجتمع هامشي؛ لذلك تساءلت ثاتشر عند سؤالها عن المجتمع: المجتمع؟! أي مجتمع! لا يوجد مجتمع، بل أفراد. هذا يعني أن الدولة ليست معنية برفاهية المجتمع كمفهوم اجتماعي تضامني يأخذ من الأفراد الميسورين ضرائب عالية تصبّ في ما يسمى «صندوق التكافل الاجتماعي» لإنفاقها على حاجات المجتمع، ولتحقيق المساواة الاجتماعية المطلوبة. فالنظرية النيوليبرالية تولي الفرد قيمة كبرى، وتجعل الأولوية لرغباته، وبالتالي لا ترهقه بالضرائب ما دام اكتسبها بعرقه، وتحرره من أي عراقيل قانونية، وتجعله يتصارع في السوق لتحقيق أقصى الأرباح ثم التمتع بها بلا التزامات اجتماعية؛ لذلك فإن أصحاب رؤوس المال يجب تشجيعهم بمغريات ومزايا لحثهم على الاستثمار الإنتاجي في البلاد، ليخلقوا فرص عمل، ويساهموا في رفع النمو الاقتصادي الذي من خلاله تتقوى الدولة وتسدد ديونها وتؤدي الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية.
فالنيوليبرالية بطبيعتها تهدف إلى تغيير سلوكيات أفراد المجتمع، ولعل خير من عبّر عن ذلك مارغريت ثاتشر بقولها: إن «الاقتصاد وسيلتي، والهدف تغيير روح الإنسان»، قاصدة جعله إنساناً اقتصادياً، يسعى إلى إشباع رغبات متجددة ومتكاثرة توفرها الرأسمالية النيوليبرالية التي أصبحت بفضل التكنولوجيا وانفتاح الأسواق ظاهرة عالمية. وبهذا أصبح مالكو العقارات، ومديرو الأموال، وأصحاب المصانع والبنوك والشركات، ومعهم أناس عاديون من حملة الأسهم، طبقة اقتصادية مميزة قادرة على إجبار السياسيين على الإنصات لهم، واتباع رغباتهم، تحت طائلة خسارة ثقة السوق. هذه الخسارة يترتب عليها تراجع اقتصاد الدولة، وارتفاع التضخم، وخسارة وظائف العمل، وزيادة المديونية العامة من جراء ارتفاع الفائدة على الديون العامة. وبهذا أصبحت السوق منافساً (خطيراً) للمواطن في العملية الديمقراطية. وللحديث بقية.