كما هي الحال في كل شيء في الحياة، ثمة مراحل في الحروب، تتلو إحداها الأخرى، اللاحقة تُبنى على ما سبقها، الأهداف الكبرى قد تتغير وقد تستمر كما هي، وكذلك الأساليب و«التكتيكات». ما يجري في قطاع غزة يمثل تطبيقاً نموذجياً لمبدأ المراحل. لكن المهم ليس في إنهاء مرحلة وبداية أخرى، إنما هو ما الذي تستهدفه كل تلك المراحل، سواء كانت ثلاثاً أو أكثر. الأمر هنا لا يقتصر على إسرائيل وحكومة الحرب فيها، وإنما يمتد إلى قيادة «حماس» وقيادات المنظمات الفلسطينية الأخرى المشاركة في مقاومة العدوان.
وبينما يسعى العالم بأسره إلى وقف العدوان وبدء عملية سياسية تحول دون إطالة الصراع وتوسعه إقليمياً، تقف حائلاً الولايات المتحدة وبضع دول أوروبية لا تؤمن بقيمة الإنسان، ولا يهمها حجم الدماء الفلسطينية التي تسيل كل ساعة بفعل القنابل الأميركية والبريطانية سواء الغبية أو الذكية التي تزن طناً من المواد المتفجرة أو تزن ربع طن، وهنا تبدو إشكالية مراحل الحرب بلا معنى، فما دام هناك غطاء أميركي - أوروبي للعدوان فلا يهم أن تبدأ إسرائيل مرحلة ثالثة أو رابعة أو أياً كان الاسم والرقم.
بصياغة أخرى، من العبث التعامل الجاد مع ما تقوله المصادر الإسرائيلية حول الاستعداد لمرحلة ثالثة من العدوان على غزة، إذ يظل الجوهر بلا تغيير، والعدوان مستمراً، والدماء الفلسطينية تسيل، والخراب والدمار يتسع مداهما، ومخاطر توسع الصراع تتصاعد، وما يجري بالقرب من باب المندب، المدخل الجنوبي الأهم للبحر الأحمر، حيث صواريخ ومسيرات جماعة «أنصار الله» الحوثية ضد السفن وحركة الشحن المتجهة إلى موانئ إسرائيل، شاهد على عبث الفكرة القائلة إنه يمكن حصر الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين في غزة وحسب من خلال حشد عسكري أميركي وبريطاني هائل في البحر المتوسط بالقرب من إسرائيل، ثم حشد آخر أكثر تكلفة في جنوب البحر الأحمر، هدفه ردع من يفكر في إيذاء إسرائيل، أو مد يد العون إلى المنظمات الفلسطينية التي تواجه جيش الاحتلال بما تيسر لديها من أسلحة ومقاتلين يؤمنون بالدفاع عن حرية بلدهم وشعبهم.
لو، رغم كونها من عمل الشيطان، أن الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة عسكرياً وسياسياً ودعائياً ومعها جهود الحلفاء التابعين لها بلا أدنى جهد في التفكير في عواقب هذه التبعية المشينة، ركزت في البحث عن حل مُنصف للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتغير واقع الشرق الأوسط برمته إلى أفضل مما هو عليه الآن، ولما فُتح الباب أمام أجيال جديدة مُحملة بالغضب، وتنتظر لحظة نضوج للثأر ولو بعد عقد أو أكثر، ولثبت أن ثمة بُعداً أخلاقياً ما زال ينبض في عروق قادة تلك الدول، وثبت معها أن الأمم المتحدة ذات مصداقية للدور الذي أنشئت من أجله قبل 8 عقود. كل ذلك معلق بحرف لو.
عكس ما يتمناه العالم تحرص عليه الولايات المتحدة والتابعون معها، ومن ثم يشتبك الجميع مع مراحل الحرب صعوداً وهبوطاً، وليس مع إنهاء الحرب والسعي نحو تهدئة حقيقية يعقبها اشتباك جاد مع متطلبات السلام والعدل والإنصاف. فعلى سبيل تفكيك ما يُقال إسرائيلياً حول المرحلة الثالثة من الحرب، التي أشارت إليها هيئة البث العبرية، وتشمل «إنهاء المناورة البرية في القطاع، وتخفيض القوات، وتسريح القوات الاحتياطية، واللجوء إلى الغارات الجوية، وإقامة منطقة عازلة على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة»، ثمة 3 ملاحظات؛ أولاها أنه سبق الإعلان من قبل أن جيش الاحتلال بصدد البدء في مرحلة ثالثة للعدوان على القطاع، وهو ما أعلنه تساحي هنغبي مستشار الأمن القومي الإسرائيلي في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي بعد 3 أسابيع من بدء العدوان الإسرائيلي، سيكون التركيز فيها على الشمال ثم سيأتي الدور لاحقاً على الجنوب، وهدفها «سحق منظمة (حماس)، وعدم السماح لها بحكم القطاع»، وفق هنغبي.
الملاحظة الثانية، أن المرحلة الثالثة المُعلن عنها قبل 4 أيام وإن شملت تغيراً في التكتيكات العسكرية، فيظل هدفها القيام بعمليات عسكرية مفتوحة في القطاع كله، سواء برية أو جوية، حتى بعد تخفيض القوات الاحتياطية وإقامة منطقة عازلة بطول الحدود مع القطاع، وسيظل فيها الهدف الخاص باغتيال قادة «حماس» قائماً سواء حدث اتفاق على هدنة طويلة، أو حتى وقف إطلاق النار وتبادل بعض أو كل الأسرى الإسرائيليين، ومن ثم فهي مرحلة قد تمتد أشهراً وربما عاماً.
الملاحظة الثالثة أن الإعلان عن هذه المرحلة في ظل البون الشاسع بين مطالب «حماس» بوقف شامل للعدوان والسماح بدخول المساعدات إلى القطاع من دون عقبات، ثم التباحث حول تبادل الأسرى، ومطالب حكومة الحرب الإسرائيلية بشأن هدنة مطولة نسبياً، وإطلاق سراح بعض الأسرى، تردد أنهم 40 أسيراً إسرائيلياً، يعني أن حكومة الحرب تناور على المستويين السياسي الدعائي والمستوى العملياتي العسكري، وهي مناورة ليست جديدة، ولا تعني شيئاً جوهرياً بالنسبة للقطاع ومنظمات المقاومة فيه. والظاهر أن الهدف الرئيسي من الإعلان عن تلك المرحلة هو إظهار نوع من التجاوب مع المطالب الأميركية التي نقلها وزير الدفاع أوستن إلى تل أبيب قبل أسبوع، وقابلها نتنياهو بالإصرار علناً على استمرار الحرب حتى تحقق أهدافها المعلنة سابقاً.
الملاحظة الرابعة أن إسرائيل، وإن كانت لديها مراحل في العدوان، فالجانب الفلسطيني لديه أيضاً مراحل في المقاومة، والظاهر بعد 11 أسبوعاً أن الاستعداد لمقاومة طويلة المدى كان في ذهن المخططين لعملية «طوفان الأقصى»، كما أن تجربة الهُدن الإنسانية السابقة التي استمرت أسبوعاً لم تكن إيجابية وفق التحليلات الفلسطينية القريبة من «حماس»، لأنها سمحت بالكشف عن كثير من المرافق والأنفاق التي كانت تستخدمها «حماس»، وبالتالي فإن الحكمة تقتضي، وفق تلك التحليلات، عدم الوقوع في فخ تلك الهُدن مرة أخرى، مهما كانت التكلفة، التي لن تزيد على ما دُفِعَ بالفعل.
الملاحظات الأربع تصب في نتيجة واحدة، سواء تعددت مراحل العدوان أو ظلت على حالها، فليس هناك سوى حل وحيد وهو وقف العدوان تماماً، واحتواء نتائجه الميدانية والإنسانية بأسرع ما يمكن، أو الانزلاق نحو صراع إقليمي سيضر إسرائيل والغرب بأكبر مما سيضر الإقليم كله.