عندما فازتِ الكاتبةُ المغربيةُ الشابةُ ليلى سليماني بجائزة غونكور، أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا، أقامت لها دار غاليمار، ناشرةُ الكتاب، حفلاً للاحتفاء بها. وقفت وسط الضيوف ووقف بجانبها محررُ الرواية وهو يشير إلى غرفةٍ جانبيةٍ قائلاً إنَّ ليلى كانت تجلسُ هناك كل يوم لكي تنتهي من «طبخ» روايتها. وأضافَ أنَّ الكاتبةَ مرّت بأيامٍ من الشكّ والحيرة. تعثرت لديها مسيرةُ السَّردِ وكادت تتخلَّى عن المشروع كلِّه. لكنَّه كانَ يتابع ما تكتبُ ويساعدُها في التَّوصّل إلى حلولٍ تخدمُ الرواية.
هكذا يُولد الكتابُ الناجحُ في الغرب. طبخةٌ يتعاونُ فيها الكاتبُ والمحررُ ومن بعدهما مصمّمُ الغلافِ ثم الموّزعُ ومسؤولُ الترويج. يقوم المحررُ الأدبيُّ بدورٍ يكمل دور المؤلف. وهو ليس مجردَ مصحّحٍ لغويٍّ بل ناصح وخبير في بناء الجملة السليمة، ومبدعٌ قادرٌ على اقتراح إضافاتٍ أو حذفِ عباراتٍ وفصول. قال لي صديقٌ روائي تُرجمتْ إحدى رواياتِه إلى الفرنسية إنَّ المحررَ الأدبي لم يأخذ النصَّ المترجم كما هو، بل جاءَ بالفصل السادسِ من الروايةِ ووضعه في بدايتِها، ومن بعده تولَّى ترتيبَ بقيةِ الفصول. وهو يعترفُ بأنَّها كانت حركةً عبقرية وعنصرَ جذبٍ إلى الحكاية بشكل لم يخطر على بالِه وهو المؤلف، ولا على بالِ ناشرِه العربي.
في بلادنا، يندر أن نعثرَ على المحرر الأدبي المحترف الجدير باللقب. هناك مصححون ومدقّقون للغة وأخطاء الطباعة لكن المحرر وظيفة أخرى، عملة نادرة. وعندما تعثر عليه فإنَّه غالباً ما يكون مرتبطاً بوظيفة أخرى. كأن يكونَ مديراً للتحرير في صحيفة معروفة أو قناة تلفزيونية. لذلك يستغني كثيرٌ من دور النشر عن محرر بتلك المواصفات. فقد لا يقدر على دفعِ أتعابه. ثم أين هو ذلك القلم الأحمر القدير الذي يستأمنه المؤلف على نصه؟ كانَ من حظّي أنني تعرفت في بيروت على الأستاذ محمود عسّاف، رحمه الله. خبير لغويّ قدير يأخذ الرواية ويراجعها في نهار وليلة، ويترك تأشيراته القيّمة عليها. لا يتدخل في بنية السرد، ويترك الأمرَ لناشرٍ يعمل معه. وبدون ناشرٍ ذكيّ يبطل سحرُ المحرر الأدبي.
بشكل عام، يظن الكاتبُ العربي أنَّه وضعَ نصاً مقدساً لا يجوز المساس به. إنَّ أي تعديل هو تشويه لحرمة كلماته واعتداء على بنات أفكاره. وكثير من الناشرين يجاري الروائي في إثم ظنونه. يعتمد على ما كتبه ويدفع به إلى المطبعة مباشرة. أما إذا كان من الذين يقبضون من المؤلف ثمن النشر فإنه، على الأغلب، لن يهتم كثيراً بالمحتوى ولا بالنتيجة.
استمعت قبل أيام إلى ندوةٍ جميلةٍ ومهمة شارك فيها ناشرون عرب، ضمن أيام بيتِ الزبير التي جرت في العاصمة العمانية مسقط. كانت بين المتحدثين مديرةُ دار الآداب في بيروت، السيدة رنا إدريس. وممَّا روته واقعة مع المفكر الفلسطيني البروفيسور إدوارد سعيد، كانت شاهدةً عليها عند ترجمة كتابه «خارج المكان» ونشره باللغة العربية.
صدر الكتاب بالإنجليزية أولاً. ومن عادة سعيد أن يكتبَ نصوصَه بخط اليد وليس رقناً على الشاشة أو الآلة الطابعة. وهو قد ذهبَ إلى بيروت ومعه النسخة الأصلية وعليها تصحيحات المحرر الأدبي بالحبر الأحمر. تقول رنا إنَّ التصحيحات كانت من الكثرة بحيث لم يكد سطر يخلو منها. مع هذا فقد كان إدوارد سعيد سعيداً بالجهد الذي بذله محرر الطبعة الأصلية. قال للناشرة العربية: «لقد جعلني أطمئن على كتابي».