د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

رسالة أميركا

استمع إلى المقالة

شاءت الأقدار أن أكون في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي لبضعة أيام صادفت حفنة من الأحداث المهمة مثل زيارة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وتصويت الجمعية العامة على وقف إطلاق النار «الإنساني» في غزة، وشحوب المناظرات داخل الحزب الجمهوري إلى حفنة من المرشحين مع اقتراب وقت الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشحي الأحزاب بالجولة الأولى في ولاية أيوا. تداخلت هذه التطورات كلها مع تطورات درامية حيث زادت توقعات الهزيمة الأوكرانية مع عجز إدارة الرئيس بايدن عن توفير المعونات الضرورية لاستمرار أوكرانيا في الحرب. وجرى ذلك إلى جانب التصويت الذي بدا تحدياً لقرار مجلس الأمن الذي استخدمت فيه أميركا حق الفيتو، والذي جعل أكثر من 150 دولة تصوت من أجل وقف فوري لإطلاق النار من بينها دول مثل كندا كان موقفها السابق هو أن ذلك ليس ضرورياً. ومن المعلوم أن قرار الجمعية العامة ليس ملزماً، ولكن رئيس الولايات المتحدة لديه قدرة محدودة على تحمل العزلة الدولية عن أقرب حلفائه، فضلاً عن اعتقاد بات عميقاً لدى البيت الأبيض أن حرب الشرق الأوسط يمكن أن تولد فرصاً إيجابية تمثل إضافة لمركز الرئيس وليس خصماً منه. الزمن بات يدق دقاته على جبهات عديدة ليس فقط من عمر الرئيس الأميركي، وهو الذي يبدو جلياً في حركته، وإنما أكثر من ذلك أنه يقرب من لحظة المواجهة مع ترمب، بينما يتساقط الضحايا في غزة، ويتراجع الجيش الأوكراني عن مواقعه التي أحرزها في هجومه المضاد.

باختصار لم تكن واشنطن مضطربة سياسيا كما هي الآن، ورغم أن حلفاء بايدن يروجون لمشهد التقدم في الاقتصاد الأميركي نتيجة الحصافة الاقتصادية للرئيس بايدن أو ما سموها «بايدنوميكس»، فإن الإجماع الجاري هو أن الإنسان الأميركي لا يشعر بهذا التقدم. وبالطبع فإن ترمب لا يغفل انتهاز هذه الفرصة مذكراً، صدقاً أو كذباً، بأن أميركا عاشت في عهده أيامها السعيدة، وما جاء بعده ليس سوى كثير من البؤس والبؤساء. حلقة الإشكاليات هكذا تكتمل ومن يكسب فيها في النهاية هو ترمب داخلياً، والصين وروسيا خارجياً؛ الأول لأن كل أشكال الشلل في السياسة الخارجية الأميركية لصالح الفارس الجمهوري الذي تزداد شعبيته مع كل حجم قضائي ضده؛ والثاني لأن موسكو وبكين تكسبان مع كل خسارة أميركية؛ أو هكذا يعتقد الأميركيون الذين يبدو العالم مظلماً بالنسبة إليهم.

هذه الحالة جعلت الكاتب السياسي فريد زكريا ينشر مقالاً مهماً في دورية «الشؤون الخارجية» ينبه فيه أن الولايات المتحدة لا تزال هي القوة العظمى الأولى في العالم. عنوان المقال الصادر من الدورية المهمة أطول مما هو معتاد على الوجه التالي: «القوة العظمى التي تشكك في نفسها؛ وعلى أميركا ألا تيأس من العالم الذي صنعته». القائمة التي قدمها الكاتب طويلة، وتشمل المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وبفارق كبير عن القوى المتقدمة والمتوسطة والطامحة باختصار لمنافسة القوة الأميركية مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان والهند. ولكن ما نجح فيه زكريا من أرقام باهرة، لا يفسر ظاهرة الشك في الذات واليأس التي تبدو مخيمة على الإدارة الأميركية، فهي تبدو عاجزة عن إحراز نصر في أوكرانيا نتيجة تقاعس الكونغرس عن تقديم المعونات المطلوبة وأتى من أجلها زيلينسكي لكي تعيد أوكرانيا خلال فصل الشتاء الاستعداد لمعركة تكسبها مع شمس الربيع. في الوقت نفسه فإن حالتها فيما يخص حرب غزة والصراع العربي - الإسرائيلي التي رأت فيه فرصة لكي تحرز فيه واشنطن سبقاً بسلام حل الدولتين. ولكن الثابت أن كل ما يجري في هذه الحرب يبدو معاكساً لما تريده واشنطن.

القضية في الشرق الأوسط بالنسبة لأميركا ليست العزلة في الجمعية العامة، وإنما الاستثمار الذي قطعته على نفسها بالوقوف الحميم إلى جانب إسرائيل بالمال والسلاح والحضور السياسي والعسكري وهي التي لم يمضِ وقت طويل على خروجها من الشرق الأوسط، لم يحرز تقدماً لا في الطلب الأميركي لمراعاة المدنيين في الحرب الجارية، ولا لوضع سقف زمني تقبل بعده إسرائيل بوقف إطلاق النار، وبالطبع الموافقة على حل الدولتين الذي تراه واشنطن طريقاً إلى السلام الذي يشمل «تطبيع العلاقات» وإقامة دولة فلسطينية تجعل حرب غزة الخامسة آخر الحروب. ما حدث في الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد توغلت إسرائيل في جنوب غزة دافعة سكانها إما إلى قرب الحدود المصرية أو إلى البحر حيث الظروف البالغة الصعوبة من الجوع والعطش. ولكن يبدو أن زيادة الضغط في الجنوب قد فتحت الجبهة الشمالية مرة أخرى بخسائر كثيرة للإسرائيليين. وكل هذا يجري بينما الأجواء ساخنة على الحدود الإسرائيلية - اللبنانية حيث لا تتوقف الاشتباكات بين إسرائيل و«حزب الله»، وفي الوقت نفسه فتحت جماعة الحوثي في اليمن جبهة أخرى في البحر الأحمر بمطاردة السفن التي تتوجه نحو إسرائيل.

باختصار شديد فإن الجهود الأميركية لم تؤدِ إلى انكماش الحرب، والتخفيف على الفلسطينيين في غزة، الذين باتت مأساتهم مصدر قلق في الحزب الديمقراطي؛ بل إنها أدت إلى اتساعها مهددة بحرب إقليمية، ومحققة لمزيد من الضغوط على الفلسطينيين الذين وصلوا إلى حافة المأساة الإنسانية الكاملة. خلاصة كل ما سبق أن واشنطن التي لم تعد على استعداد لاتخاذ قرارات جريئة وشجاعة لا على الجبهة الأوكرانية - الروسية ولا الفلسطينية - الإسرائيلية؛ فإنها ربما تعول على قدر أكبر من العون من أطراف عالمية مثل الصين، وإقليمية من أجل خروج أزمة الشرق الأوسط من الضياع الذي دخلته. في واشنطن يقولون إن هناك حاجة لإنقاذ إسرائيل من نفسها، ويبدو أن ذلك ينطبق على أميركا نفسها أيضاً.