د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

رشاقة تفكير «تويوتا»

استمع إلى المقالة

إذا انطلق الفيل والغزال وشيتا الفهد في سباق فسيصل الفهد أولاً إلى خط النهاية، فالغزال ثم الفيل؛ الأول لأن سرعته تصل إلى 120 كيلومتراً في الساعة «سرعة سيارة في خط سريع». في حين يركض الغزال بسرعة 80 كيلومتراً والفيل بسرعة 44 كيلومتراً في الساعة، ولو تخيلنا أن تلك الحيوانات خطوط إنتاج فسوف ينتج الفهد بسرعة أكبر من الغزال والفيل، لكفاءته ورشاقته.

هذا ما استوعبته شركة تصنيع السيارات «تويوتا»، في حقبة الأربعينات والخمسينات، حينما انفردت بتطبيق نظام الإنتاج الخاص بها TPS، الذي انبثقت منه ما سُمي «الإدارة الرشيقة (lean management)»، وهي منهجية صرنا نرى ثمارها في ما نأكل ونشرب ونستقبل من منتجات، حيث تركز على تعظيم القيمة للعميل مع تقليل كل أشكال الهدر في العملية الإنتاجية، وتحسين سرعة الاستجابة لرغباته.

فمكث القائمون على الشركة يتابعون دقائق تحركات الموظفين في المصنع، مثل: ماذا يلتقطون؟ وعم يبحثون؟ وما الذي يعطلهم ثواني معدودة عن العملية الإنتاجية؟ ثم اكتشفوا أن هناك أموراً كثيرة يجب التخلص منها، عبر أجهزة استشعار تكشف الأخطاء في التصنيع قبل أن ينتبه إليها العمال، فتقل احتمالية صناعة قطعة معيبة، ويظهر للعاملين مكمن الخلل فوراً حتى تستمر عجلة التصنيع بالوتيرة السريعة نفسها.

ثم لجأوا أيضاً إلى نقلة مذهلة في ما يسمى «الإنتاج حسب الطلب (Just-in-Time)»، وهي أن كفاءة أداء الأجهزة مكنتهم من الاستغناء عن تخزين منتجات هائلة مكلفة، وصار بمقدورهم التنبؤ بما يحتاجون إليه من مواد فتصل أولاً بأول، وتتغير وفق متطلبات العميل. تماماً كما يحدث في إيصال الحليب يومياً إلى المقاهي، فلا داعي إلى تخزينه في برادات ضخمة في المقهى لأن النظام يشعر المورد بالحاجة الفعلية اليومية.

كما نشرت «تويوتا» ثقافة التحسين المستمر «كايزين» بين العاملين فيها؛ حيث يمكنهم تدوين مقترحاتهم حول كيفية تحسين عمليات الإنتاج ورفع كفاءتها، وما المعدات والأدوات التي يمكن الاستغناء عنها. وتخلصت «تويوتا» أيضاً من «الحركات الجسدية غير الفعالة» مثل التفات العامل، أو تمدده للوصول إلى الأشياء، أو انحنائه المتكرر الذي يحدث على مدار العام تباطؤاً في العمل.

وربما يعتقد البعض بتفاهة الحركة، لكنها توفر جهداً وتكاليف طائلة. تماماً كما يحدث مع صانع القهوة الذي لا يتحرك من مكانه حتى ينهي طلب الكابتشينو أو القهوة الباردة؛ لأن كل ما يحتاج إليه في متناول يده. غير أنه لاعتبارات مرتبطة بالسعة المكانية تجده يضطر إلى الالتفاف للوراء لأخذ مكعبات الثلج. هذه الالتفاتة اليسيرة تعطل عملية تحضير القهوة ثواني معدودة تطيل أمد انتظار العملاء، وهو ما لا تقبله «تويوتا». فتمكنوا من أتمتة كل شيء ولكن بلمسة إنسانية كما يسمونها. واستفادت «ماكدونالدز» بقوة من هذه المفاهيم التي عجلت تقديم طلباتها.

رشاقة تفكير «تويوتا» ذاع صيتها حول العالم، وبدأت مصانع وشركات كثيرة السير على هداها. وصارت الجامعات تدرس كفاءة «الإدارة الرشيقة». كل تلك الجهود تتجه نحو كلمة واحدة يحبها بديع السماوات والأرض وهي «الإتقان» مصداقاً للحديث النبوي: «إِنّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ».