د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

التقليد المحمود

استمع إلى المقالة

اعترف الروائي الكبير نجيب محفوظ بأنه قد قرأ في سنوات الدراسة الابتدائية لكبار الأدباء، وحاول تقليد أساليبهم في الكتابة.

ثم يُقِر بدقة قائلاً في مذكراته: «حاولت تقليد أسلوب المنفلوطي في كتابه النظرات والعبرات، وحاولت كتابة قصة حياتي على غرار كتاب الأيام لطه حسين، وسمّيتها الأعوام»! هذا التقليد مع القراءة المعمقة دفعه لتلمس طريقه نحو الرواية التي فضلها على الشعر والموسيقى، حيث عدّها فناً لم ينل حظه الكافي من الدعم في الوطن العربي.

«نهج التقليد» الانتقالي الذي اتبعه محفوظ لم يمنعه من أن يصبح أول عربي ينال جائزة نوبل في الأدب. وهو ما يفعله ملايين ممن يقلدون آخرين في طريقهم نحو الجودة. فالرسامون والموسيقيون والفنانون والسياسيون وغيرهم كانوا يقلدون شيئاً من مدارس أسلافهم، حتى أجادوا «الصنعة» فشقوا سبيلهم نحو التألق. وقد قلّد البريطانيون الهولنديين في إنشاء سوق أوراق مالية (بورصة)، وقلدوهم أيضاً في تأسيس بنك مركزي عام 1694م، وإصدار سندات عام 1688م، ثم صارت بريطانيا أيقونة التشريعات والحوكمة في العالم.

في عالم التجارة حينما تقلد المنافسين قد تصمد قليلاً لكنك سرعان ما تجد نفسك خارج حلبة المنافسة. فمن أبجديات البقاء في دائرة التنافس مفاجأة الخصم والعميل بارتقاء قمة جديدة.

والبلدان تقلد بعضها في بدايات عهد التقدم. فالمنتج الياباني في مطلع القرن الماضي كان مثاراً للسخرية من شدة رداءته، كما يصفه لي تاجر ثمانيني بأنه يشبه بعض المنتجات الصينية في عصرنا.

ثم انقلبت الموازين. صارت اليابان تصدّر الإتقان والجودة التي لها جذور في ثقافتها المتمثلة في بعض الحرف.

فكان الفَيْصَل بين سِجال صُنّاع السيوف اليابانيين هو كم جثة يمكن أن يقطع نصل السيف الجديد. فإن كان يَبتُر ثلاث جثث متراكمة في ميادين القتال فهو معيار مدهش للجودة.

التقليد محمودٌ في البدايات لكنه مذمومٌ في النهايات. بل هو دليل على الافتقار للإبداع والابتكار. ولذلك يقلد صانع السيوف الياباني المبتدئ معلمه، في مقتبل مسيرته، حتى إذا ما أجاد الصنعة تدفقت إبداعاته.

ولا بأس من التقليد الانتقالي أو الجزئي. وخير مثال، موقع «أمازون» الذي قرر في بداياته الاقتصار على بيع الكتب، وكنت من أوائل زبائنه في أواخر التسعينات، إلا أنه سرعان ما تحول إلى متجر عالمي لبيع كل شيء تقريباً، حيث قرر عرض سيارات هيونداي في مطلع عام 2024. باختصار قلّد متاجر إلكترونية قائمة.

وتعود أسباب التقليد إلى فطرتنا، حيث علمتنا تجارب الطفولة أن تقليد مشية الكبار ممكن في سن معينة، فضلاً عن تقليد كلامهم وتصرفاتهم. مع مرور الوقت تصبح لدينا بصمة فريدة.

عندما نقول «قلّد» ثم أبدع لا نقصد به انتهاك حقوق ملكية ولكننا نقصد «اقتفاء أثر المميزين» أو نهجهم فترة انتقالية. ذلك أن التقليد «لا يُواطن» الإبداع بل ينفر منه.