سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

كلهم «إرهابيون»!

استمع إلى المقالة

رغم كل المواثيق الدولية التي يفترض أن تحمي الطفولة، اعتقل الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 ما يزيد على 50 ألف طفل فلسطيني، تعرَّضوا للعنف والتنكيل اللذين يخضع لهما الكبار، من دون أي اعتبار لضعفهم أو خصوصيتهم. وبحسب منظمة «أنقذوا الأطفال»، فإنَّ ثمانية من كل عشرة أطفال اعتقلوا، تعرضوا لـ«إيذاء جسدي»، وهذا مصطلح مطاط قد يعني أشياء لا تخطر على بال.

فالأطفال الفلسطينيون الذين أفرج عنهم قبلَ أيام، في صفقة تبادل مقابل رهائن «حماس» في غزة، رووا أمام الكاميرات فظائعَ ما تعرضوا له؛ من تجويع وتعطيش وحرمان من الملابس والاستحمام، عدا الركل والتعرية والضرب حتى الموت، وترك المصابين منهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، من دون إسعاف.

في الزنازين الانفرادية يترك الأطفال حتى الجنون، في فترة التكوين والتأهيل، حيث يفترض أن يحتضنوا ويحموا. تفعل إسرائيل كل ما بوسعها لكسر الإنسان الفلسطيني قبل أن يعي وجوده وكينونته. حكاية الطفل أحمد مناصرة، الذي اعتقل في الثالثة عشرة قبل ثمانية أعوام هي تراجيديا حقيقية. كان يسير هو وابن عمه في القدس، حين أطلق عليهما الرصاص فقتل الثاني واعتقل الأول، بتهمة محاولة تنفيذ طعن، وحكم عليه بـ12 عاماً. لا أحد يعرف في أي حال هو هذا الشاب الذي ذاق مختلفَ صنوف التعذيب. سجن بعد إطلاق النار عليه وهو ينزف، وربما هي العناية الإلهية التي جعلته ينجو. من يومها وهو يخضع لكل أنواع القهر الذي يجيده جلادوه، وتدهورت صحته مرات عدة، كما طالبت بالإفراج عنه هيئات دولية كثيرة، لكن إسرائيل لا تسمع النداء.

آلاف القصص المأساوية. باسل عيايدة اعتقل وهو في الخامسة عشرة، وخرج بعد 11 عاماً من العزل والضرب والإهانة، فاقداً ذاكرته، لا يعرف ذويه، ولا تعني له فلسطين شيئاً، وربما هذا هو المطلوب. مثله الصغير محمد عبيد الذي خرج بعد سنة ونصف سنة من السجون الإسرائيلية الثأرية، وقد تبدلت ملامحه، وغير قادر على ممارسة أدنى تفاصيل الحياة اليومية، ولم يتمكَّن من معرفة عائلته.

كثيرون يبقون في حجز إداري ودون توجيه تهم. ومنهم من تنتزع اعترافاتهم تحت التعذيب، وتبقى سرّية، ومنها ما يكتب بالعبرية، وهناك تشويه أحياناً لأقوال المحقق معهم ولعب على الكلام المترجم. كل أنواع الكذب والاحتيال تمارس، كي يسجن أكبر عدد ممكن من الأطفال ويقهرون، ويكسرون، ويهانون.

تعتقل إسرائيل مرضى، جرحى، ذوي احتياجات خاصة، ولا تأبه. وصل الأمر إلى أن اعتقلت الطفل يوسف سند كبها، ابن الثلاثة أعوام وهو يرافق والدته، على أحد الحواجز في جنين ولم يفرج عنه قبل أن يخلع قميصه، بحجة أن عليها رسم بندقية.

يحكم على طفل يلقي الحجارة على مركبة متحركة بالسجن لمدة تصل إلى 20 عاماً، بينما تخفّض إلى 10 سنوات إذا ما ألقى الطفل حجرة على هدف ثابت. ويحتسب عمر الطفل عند سن إصدار الحكم وليس لحظة ارتكاب جريمة رمي الحجر. ويصل معدل الإدانة في المحاكم إلى 99 في المائة، أي لا ينجو إلا من رحم ربك.

العام الماضي وحده، سجنت إسرائيل 600 طفل مقدسي، دون الرابعة عشرة، في منازلهم، بحيث يمنع عليهم مبارحتها، لمدة قد تصل إلى عام، لا تحتسب من عمر الحكم الفعلي الذي يصدر لاحقاً. وهي عقوبة تعتبرها «هيئة شؤون الأسرى» بمثابة «خنجر في خاصرة المقدسيين». ويوُضع للطفل كما المجرمين، جهاز تتبع في معصمه، عبارة عن سوار إلكتروني، ونادراً ما يُسمح له بالذهاب إلى المدرسة أو الطبيب. وفي بعض الأحيان يفصل الطفل عن أسرته ويوضع خارج مدينته.

منذ عام 1967 واحتلالها الضفةَ الغربية وقطاع غزة، تواصل إسرائيل اعتقال الأطفال، لكن هذه الممارسات الشنعاء تصاعدت مع الانتفاضة الأولى عام 1987، حيث اعتقل أطفال الحجارة بشكل كثيف، ومن حينها، أصبحت عملية ممنهجة، ومستمرة. وهي بوصفها سلطة احتلال لا تعترف لهؤلاء الصغار بأي من الحقوق التي تؤمنها لهم القوانين الدولية، وتميز بينهم وبين الأطفال الإسرائيليين، في تطبيق لنظام فصل عنصري فاقع. فالاحتلال يرى أطفال فلسطين نواة «مخربين» مستقبليين، لهذا يستبيح كل شيء. وعادة حين يلجأ لسجن أطفال باعتباره الملاذ الأخير الذي تلجأ إليه أي سلطة، فإن إسرائيل تعتبره «الملاذ التقليدي»، الذي يمكن أن يطول ويمتد؛ ليتأدب الطفل، وتكسر شوكته. فقد عرفت المحاكم الإسرائيلية حكماً بالسجن المؤبد على أحد الأطفال، وتمتد بعض الأحكام على تهم مثل حمل سكين إلى 15 عاماً.

رعب إسرائيل الأحمر، يجعلها ترى في كل طفل فلسطيني قاتلاً مستقبلياً يهدد أمنها ووجودَها. وحين يقولون إن «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، فهم يعنون ما يقولون.

والأمر لا ينقضي بإطلاق سراح الأطفال بصفقة أو بانتهاء الحكم، بل يهدّدون باستمرار بإعادة السير إلى السجن، في أي لحظة، وهو ما يحدث تكراراً.

تصرّ إسرائيل حين تنشر لوائح الأطفال الذين تنوي الإفراج عنهم في إطار الصفقة الحالية، بوصفهم بـ«الإرهابيين»، لتبيح لنفسها الانقضاض عليهم في أقرب فرصة، بحيث تكون التهمة جاهزة. وبالتالي فكل الأسرى الذين يخرجون هم «إرهابيون» سلفاً. رغم أن غالبيتهم لم توجّه لهم تهمة أصلاً.

ما موقف آلاف جمعيات «حقوق الطفل» حول العالم التي يصرف عليها ثروات طائلة، من تفنّن إسرائيل وابتكاراتها الإجرامية وهي تحرم صغار الفلسطينيين من طفولتهم، وأحضان أمهاتهم، وتستبيح كل ما بمقدورها، من انتزاع الأرواح لما يزيد على ستة آلاف طفل في غزة، إلى سجنهم في المنازل، وحرمانهم من التعليم، إلى أسرهم وتعذيبهم بشتى الوسائل، ومنع حتى شربة الماء عنهم.

يحتاج هؤلاء الأطفال إلى رفع الصوت، أن تسمع الاحتجاجات من كل الدنيا، أن توجه تهديدات لمعتقليهم وقاتليهم. عدّاد القتل لا يتوقف في الضفة وغزة، وكذلك منسوب الاعتقالات يرتفع بجنون.

هذا ظلم لا يمكن وصفه.