رغم أنَّ الوظيفة «التهمت نصف يومه»، كما يقول رائد الرواية العربية نجيب محفوظ، إلا أنه نجح في الموازنة بين نشاطاته، فكتب 50 رواية في نحو 50 عاماً، ثم توجت جهوده بنيل جائزة «نوبل للآداب» كأول عربي يستحقها.
ونقل عنه رجاء النقاش في كتابه الجميل «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» عن «دار الشروق» أنه عدَّ الـ37 عاماً التي قضاها في الوظيفة «ظلماً كبيراً» له. غير أن محفوظ استدرك بأن «الوظيفة علمتني النظام والحرص على أن أستغل بقية يومي في العمل الأدبي، قراءة وكتابة، وجعلتني أستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة مع عدم تجاهل أوقات الراحة والترفيه».
ويبدي محفوظ سعادته بقوله «أمدتني الوظيفة بنماذج بشرية كانت غائبة عن حياتي... وكيف أننا مجتمع بيروقراطي». وكان يعمل أديبنا في وزارة الأوقاف وتولى أمر الرد على شكاوى الناس، وشهد كيف تتصارع الأحزاب، ويتعارك الناس في سبيل الحصول على منصب، ورأى بعينه ما لم يَرَهُ في الحارة والمقهى وهو «تدخل المصالح الشخصية بشكل سافر يضر بمصالح الناس».
ويشارك محفوظ الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز الذي عمل أيضاً في طفولته بأحد المصانع وصار لاحقاً كاتباً في مكتب محاماة. وكان الكاتب والمسرحي الروسي أنطون تشيخوف طبيباً وظل يردد عبارته الشهيرة «الطب هو زوجتي الشرعية والأدب هو عشيقتي». وعمل الكاتب التشيكي فرانس كافكا في شركة تأمين، وقد ساعدته الوظيفة في الحفاظ على روتينه اليومي، مما أتاح له الوقت لكتابة أعماله.
هناك ما يشبه «النظرية» التي تردد في أدبيات الإدارة يطلق عليها «قانون باركينسون» (Parkinson›s Law) مفاده أن المرء إذا ما مُنح شهراً لإكمال مهمة ما فإنه سوف يستنفده كاملاً، وإذا ما ألزمته بإنجازها في أسبوع، فإنه على الأرجح سيفاجئك مضطراً لإكمالها تحت وطأة الـdeadline أو موعد التسليم.
بمعنى أن تحديد مهلة زمنية أقصر قد يزيد من كفاءة أدائنا وتقليل المماطلة والتسويف، لكنه في الوقت نفسه سيرفع الجهد المبذول. وهذا ما حدث مع الموظفين الأدباء وغيرهم طوال مسيرتهم. فكان نجيب محفوظ مثلاً يقرأ ثلاث ساعات، ويكتب ثلاث ساعات لمدة أربعة أيام فقط أسبوعياً، حتى أنه يَضَع القلم فلا «يُكمِل الجار والمجرور» بعد انقضاء تلك المدة الزمنية الصارمة، حسبما ذكر مقربون منه. ومع ذلك فهو يخصص يوم السبت لأسرته، ويومي الخميس والجمعة للتنزه وزيارة الأصحاب والترويح عن النفس، أما شغف الكتابة فمن الأحد حتى الأربعاء.
الأديب والشاعر غازي القصيبي لم تمنعه الحقائب الوزارية الأربع والوظائف الدبلوماسية والأكاديمية من أن يكون غزير الإنتاج شعراً ونثراً. ولذلك أطلق قولته الشهيرة «إن الأدباء الموظفين أكثر إنتاجاً من المتفرغين».
ورغم وفرة إنتاج نجيب محفوظ، واعتراف أشهر جائزة في العالم بقدراته (نوبل)، إلا أنه فارق الحياة ولم تتحقق أمنيته في التفرغ للأدب، بل والمؤلم بحق أن آخر راتب تقاضاه كان 160 جنيهاً شهرياً، وهو ما يعادل اليوم قيمة فنجان من الكابتشينو في أحد المقاهي العالمية.