توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

وقت النقاش... وحديث المطر

استمع إلى المقالة

لقيت خلال حياتِي المدرسيَّة أساتذةً من مشاربَ شتى. عرّفني كلٌّ منهم بعالمٍ غير العوالم التي عرفتُها وألفتُها. وما زلت أذكر تلك النقاشاتِ الساخنةَ التي أخذتنا بعيداً عن الكتاب والمنهج، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية، والتي حوت -دائماً- ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعوَ أصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب لفتح عقولِهم وقلوبهم لتلاميذهم، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة، في موضوع الدرس أو غيره. ثمة مجتمعات لا توفر غير مساحة ضيقة للنقاش الجاد والمنفتح، النقاش الذي يأخذ الإنسان إلى حدود الخيال، من دون رهبة.

لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة حيوياً في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير المألوفة. من بين الأساتذة الذين تركوا أثراً في نفسي، أذكر اثنين، لا يقول أحدهما شيئاً إلا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلاً أن الأول اعتاد التشديد على أن الحكمة في الصمت، وأن سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي وتجنب الجدال. وغالباً ما ذكر روايات وأشعاراً تؤكد هذا المعنى. وبعكسه تماماً كان الأستاذ الثاني، الذي ما انفك يذكرنا بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية، ويؤكد أن النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل عند الإنسان. وكان يقول مثلاً إن الأثر المروي عن علي بن أبي طالب «تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه» لا يعني مجرد النطق، بل أراد التركيز على «الكلام» أي الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق، الذي يقيم وسطاً معرفياً يتواصل عبره مختلف الناس، نظير ما يسمى اليوم الميديا/ الوسائط media التي يصل دورها إلى تكوين الرأي العام أو الفهم المشترك للقضايا المطروحة في المجال العام. ولطالما لفت هذا الأستاذ أنظارنا إلى بعض القواعد اللطيفة في الحديث، سواء تعلقت بآداب النقاش أو قواعد التفكير المنطقي والعقلاني، وهي قواعد أظننا في أمس الحاجة إلى أمثالها، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم -بل كل يوم. ويظهر لي أن ميول هذين الأستاذين تحاكي نمطاً عاماً. فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في أي مسألة، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماماً، فهي تقصر النقاش في القضايا العامة على الحد الأدنى، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود المسموح بها. ومما أذكره أنني كنت أزور بين حين وآخر أحد الأشخاص، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكنني لا أذكر أبداً أن النقاش قد تجاوز أحوال الطقس، وهل نزل المطر أم لا، خفيفاً كان أم ثقيلاً، ويطول الحديث عن البلدان التي شهدت سيولاً، وماذا ترتب عليها... إلخ. لقد ظننت -وربما أكون مخطئاً- أن هذا النوع من النقاش ليس عفوياً، بل هو مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين.

أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا الساخنة فهي لا تتعدى الإشارة إلى «حساسية» من نوع ما.

فبعضهم يشير لحساسية الموضوع ذاته، وأن هناك أشخاصاً ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة، فيرون فيها تحدياً لقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الأشخاص الموثوق في أهليتهم والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعاً هي المتعلقة بتوقيت الكلام، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا أو هناك، يقدمونها مبرراً لتأجيل النقاش في هذا الموضوع أو ذاك.