أومير بارتوف
- مؤرخ وأستاذ في جامعة براون، يقوم بالتدريس منذ عام 2000 وأحد مراجع العالم في موضوع الإبادة الجماعية.
TT

رؤيتي بوصفي مؤرخاً معنيّاً بالإبادات الجماعية

استمع إلى المقالة

خلقت العمليات العسكرية الإسرائيلية أزمة إنسانية يتعذَّر الدفاع عنها، وستتفاقم بمرور الوقت. والتساؤل هنا: هل تقف تصرفات إسرائيل -كما يجادلون– على شفا التطهير العرقي، أو الأسوأ: الإبادة الجماعية؟

وبوصفي مؤرخاً معنياً بالإبادة الجماعية، أعتقد أنه لا يوجد دليل على حدوث إبادة جماعية حالياً في غزة، رغم أن ثمة احتمالاً كبيراً أن تكون غزة قد شهدت جرائم حرب؛ بل وحتى جرائم ضد الإنسانية. وهذا يعني شيئين مهمين: أولاً: نحتاج إلى تحديد ما نراه، وثانياً: لدينا الفرصة لوقف الوضع قبل أن يصبح أسوأ. ونحن نعلم من التاريخ أنه من المهم التحذير من احتمال وقوع إبادة جماعية قبل وقوعها، بدلاً من إدانتها بعد فوات الأوان. وأعتقد أنه لا يزال أمامنا وقت.

الواضح أن العنف اليومي الذي يجتاح غزة أمر لا يطاق ولا يمكن الدفاع عنه. ومنذ المقتلة التي ارتكبتها جماعة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) -والتي تُعد في حد ذاتها جريمة حرب- أدى الهجوم الجوي والبري العسكري الإسرائيلي على غزة إلى مقتل أكثر من 10500 فلسطيني، وفقاً لوزارة الصحة في غزة. رقم يتضمن آلاف الأطفال. ويزيد الرقم بكثير عن خمسة أضعاف الذين قتلتهم «حماس»، ويتجاوز 1400 شخص في إسرائيل. وفي سياق تبريرهم الهجوم، أصدر القادة والجنرالات الإسرائيليون تصريحات مرعبة تشير إلى نية ارتكاب إبادة جماعية.

ومع ذلك، فإن مشاعر الرعب الجماعي التي تجتاحنا جميعاً جراء ما نشاهده، لا تعني أن هناك إبادة جماعية تجري بالفعل، تبعاً للتعريف القانوني الدولي للمصطلح. ولأن الإبادة الجماعية التي يطلق عليها أحياناً «جريمة الجرائم»، يعدها كثيرون أشد الجرائم تطرفاً من بين جميع الجرائم، فغالباً ما يكون هناك دافع لوصف أي حالة من حالات القتل الجماعي والمذابح، بأنها إبادة جماعية. إلا أن هذه الرغبة في وصف جميع الأحداث المروعة بأنها إبادة جماعية، تميل إلى حجب الواقع، بدلاً عن تفسيره.

من جهته، يحدد القانون الإنساني الدولي عدة جرائم خطيرة في النزاعات المسلحة. وفي إطار اتفاقية جنيف لعام 1949 والبروتوكولات اللاحقة لها، يجري تعريف جرائم الحرب بكونها انتهاكات خطيرة لقوانين وأعراف الحرب في النزاعات المسلحة الدولية، ضد المقاتلين والمدنيين على حد سواء. ويعرّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية بأنها إبادة أو جرائم جماعية أخرى، ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. وجرى تعريف جريمة الإبادة الجماعية عام 1948 من قبل الأمم المتحدة، بأنها «قصد التدمير، على نحو كامل أو جزئي، لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه».

لذا، من أجل إثبات حدوث إبادة جماعية، نحتاج إلى إظهار كلٍّ من: وجود نية للتدمير، وأن العمل التدميري يحدث ضد مجموعة بعينها. تختلف الإبادة الجماعية بوصفها مفهوماً قانونياً عن التطهير العرقي. يهدف التطهير العرقي الذي لم يتم الاعتراف به بوصفه جريمة قائمة بذاتها بموجب القانون الدولي، إلى إزاحة السكان من منطقة ما، غالباً باستخدام العنف، في حين تهدف الإبادة الجماعية إلى القضاء على هؤلاء السكان أينما كانوا. في الواقع، فإن أياً من هذه المواقف -خصوصاً التطهير العرقي- يمكن أن يتصاعد ليتحول إلى إبادة جماعية، كما حدث في المحارق النازية التي بدأت بنية طرد اليهود من الأراضي التي تسيطر عليها ألمانيا، ثم تحولت إلى نية إبادتهم جسدياً.

الحقيقة، مصدر القلق الأكبر لي عندما أتابع تطورات الحرب بين إسرائيل وقطاع غزة، أن هناك نية قائمة للإبادة الجماعية، يمكن أن تتحول بسهولة إلى أعمال إبادة جماعية على الأرض. في السابع من أكتوبر، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن سكان غزة سيدفعون «ثمناً باهظاً» نتيجة لتصرفات «حماس»، وأن جيش الدفاع الإسرائيلي سيحول أجزاء من المراكز الحضرية المكتظة بالسكان في غزة إلى «أنقاض».

وأضاف في 28 أكتوبر، نقلاً عن سفر التثنية: «اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر». وكما يعلم كثير من الإسرائيليين، فإنه انتقاماً لهجوم العماليق، يدعو «الكتاب المقدس» إلى «قتل الرجال والنساء والأطفال والرضع على حد سواء».

ولا تنتهي النبرة المثيرة للقلق العميق عند هذا الحد، وإنما نجد وزير الدفاع الإسرائيلي في التاسع من أكتوبر، يوآف غالانت، يقول: «إننا نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف وفقاً لذلك»، وهو بيان يشير إلى تجريد الآخر من الإنسانية، ويحمل أصداء إبادة جماعية.

وفي اليوم التالي، خاطب رئيس شؤون تنسيق الأنشطة الحكومية بالجيش الإسرائيلي، الميجور جنرال غسان عليان، سكان غزة، باللغة العربية، قائلاً: «تجب معاملة الحيوانات البشرية على هذا النحو»، مضيفاً: «لن تكون هناك كهرباء ولا ماء. ولن يكون هناك سوى الدمار. لقد أردتم الجحيم، وستحصلون عليه».

وفي اليوم نفسه، كتب الميجور جنرال المتقاعد غيورا إيلاند، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» اليومية: «ليس أمام دولة إسرائيل خيار سوى تحويل غزة إلى مكان يستحيل العيش فيه، سواء بصورة مؤقتة أو دائمة». وأضاف أن «خلق أزمة إنسانية حادة في غزة وسيلة ضرورية لتحقيق هذا الهدف».

وكتب في مقال آخر أن «غزة ستصبح مكاناً لا يمكن لإنسان العيش فيه». ولم يستنكر أي ممثل للجيش أو سياسي هذا التصريح.

ويمكنني اقتباس كثير من التصريحات المشابهة.

ويمكن بسهولة تفسير هذه التصريحات مجتمعة، بوصفها مؤشراً على نية اقتراف إبادة جماعية ـ لكن هل تحدث إبادة جماعية بالفعل؟ من جهتهم، يصر القادة العسكريون الإسرائيليون على أنهم يحاولون الحد من الخسائر في صفوف المدنيين، وينسبون الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى الفلسطينيين إلى تكتيكات «حماس» المتمثلة في استخدام المدنيين دروعاً بشرية، ووضع مراكز قيادتها تحت المباني المخصصة لأغراض إنسانية، مثل المستشفيات.

ومع ذلك، أفادت تقارير بأنه في 13 أكتوبر، أصدرت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية مقترحاً بنقل جميع سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء الخاضعة لحكم مصر. وتحتفي العناصر اليمينية المتطرفة في الحكومة -وكذلك ممثلوها في جيش الدفاع الإسرائيلي- بالحرب، باعتبارها فرصة للتخلص من الفلسطينيين نهائياً.

هذا الشهر، ظهر مقطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي للكابتن أميخاي فريدمان، الحاخام في «لواء ناحال»، يقول لمجموعة من الجنود إنه أصبح واضحاً الآن أن «هذه الأرض لنا، الأرض كلها، بما فيها غزة، بما فيها لبنان». وهتف الجنود بحماس، أما الجيش فقد أعلن أنَّ سلوك هذا الحاخام «لا يتماشى» مع قيم الجيش وتوجيهاته.

وعليه، فإنه رغم أنه ليس باستطاعتنا الجزم بأن الجيش الإسرائيلي يستهدف المدنيين الفلسطينيين بشكل صريح، فإننا ربما نشهد، من الناحية الوظيفية والخطابية، عملية تطهير عرقي، يمكن أن تتصاعد بسرعة إلى إبادة جماعية، كما حدث أكثر من مرة في الماضي.

لقد تألمت كثيراً خلال الأشهر القليلة الماضية جراء تطور الأحداث في إسرائيل. وفي الرابع من أغسطس (آب)، وزعت أنا وكثير من زملائي عريضة نحذر فيها من أن محاولة الانقلاب القضائي من قبل حكومة نتنياهو تهدف إلى إدامة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ووقَّع على العريضة ما يقرب من 2500 من العلماء ورجال الدين والشخصيات العامة الذين شعروا بالاشمئزاز من الخطاب العنصري لأعضاء الحكومة، وجهودها المناهضة للديمقراطية، والعنف المتزايد من قبل المستوطنين، بدعم من الجيش الإسرائيلي على ما يبدو، ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.

حان الوقت للقادة وكبار العلماء في المؤسسات المخصصة للبحث وإحياء ذكرى المحارق النازية، كي يحذروا علناً من الخطاب المفعم بالغضب والانتقام الذي يجرد سكان غزة من إنسانيتهم، ويدعو إلى القضاء عليهم. وحان الوقت للحديث علانية ضد العنف المتصاعد بالضفة الغربية الذي يرتكبه المستوطنون الإسرائيليون والقوات الإسرائيلية التي يبدو الآن أنها تنزلق نحو التطهير العرقي تحت غطاء الحرب في غزة. وحسب تقارير، فرَّ سكان كثير من القرى الفلسطينية تحت وطأة تهديدات المستوطنين.

من جانبي، أحث المؤسسات الموقرة، مثل متحف الولايات المتحدة التذكاري للمحرقة في واشنطن العاصمة، ومتحف ياد فاشيم في القدس، على التدخل الآن والوقوف في طليعة أولئك الذين يحذرون من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والتطهير العرقي، وكذلك جريمة الجرائم؛ الإبادة الجماعية.

إذا كنا نعتقد حقاً أن المحرقة علمتنا درساً حول ضرورة -أو في الواقع: واجب- الحفاظ على إنسانيتنا وكرامتنا، من خلال حماية كرامة الآخرين، فإن هذا هو الوقت المناسب للوقوف ورفع أصواتنا، قبل أن تغرق القيادة الإسرائيلية وجيرانها في الهاوية.

ولا تزال هناك فسحة من الوقت لمنع إسرائيل من تصعيد أفعالها إلى إبادة جماعية. ويجب ألا ننتظر أكثر من ذلك.

* خدمة «نيويورك تايمز»

* مؤرخ وأستاذ في جامعة براون، يقوم بالتدريس منذ

عام 2000 وأحد مراجع العالم في موضوع الإبادة الجماعية.