هل تقضي الحرب الأخيرة على حل الدولتين؟ هو تساؤل مشروع وليس سابقاً لأوانه، لا سيّما مع ازدياد الحراك السياسي (خصوصاً الأميركي)، لرسم معالم حقبة ما بعد انتهاء الحرب، وقد عبّر عنها وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن بوضوح، عندما عبّر عن رأي إدارته بأنها لا توافق على احتلال قطاع غزة مجدداً من قبل إسرائيل، ولا أن تعود حركة «حماس» لحكمها.
لم تضع الحرب أوزارها بعد، وهي حرب مجنونة تمارس فيها جرائم ضد الإنسانيّة وإبادة جماعيّة على مرأى ومسمع من العالم وبغطاء أميركي كامل. وبالتالي، قبل ارتسام الخريطة الجديدة لموازين القوى في المنطقة بعد انتهاء الحرب، لن يكون متاحاً بالفعل تحديد المسارات المستقبليّة.
مشروع «الترانسفير» لم يسقط نهائيّاً بعد، هو أساساً لم يسقط يوماً من الحسابات الإسرائيليّة التي لطالما سعت لطرد الفلسطينيين من أرضهم بشتى الوسائل المتاحة بما يتوافق مع مشروع إسرائيل الكبرى التي يرى بعض عتاة المتطرفين من أحزاب اليمين المتشدد وتيارات أخرى أن الضفة الشرقيّة أيضاً وليس فقط الضفة الغربيّة يفترض أن تكون تابعة لأرض إسرائيل.
حتى لو تصدّت مصر والأردن بقوّة للهدف الإسرائيلي بطرد الفلسطينيين من أرضهم وإبعادهم إليها، فثمة عنصر قوة آخر يتصل بالفلسطينيين أنفسهم، وهم الذين عُرفوا على مدى العقود الماضية بتمسكهم بأرضهم ورفضهم مغادرتها. وبالتالي، لا بد من عدم احتساب هذا العامل راهناً، ولو كانت تكلفته السياسيّة والعسكريّة والبشريّة باهظة جداً، دون أن يُلغى من الاعتبارات الإسرائيليّة.
إنما بمعزل عن كل التداعيات المرتقبة لمرحلة ما بعد الحرب على غزة التي تبدو أنها لن تكون قصيرة المدى على ضوء الفشل الإسرائيلي في تحقيق أي من الأهداف المعلنة للعمليّة العسكريّة (إلا بالطبع القتل الجماعي الموصوف)، ليس من السهل الحديث في هذه اللحظة عن حل الدولتين الذي يصعب تحقيقه على ضوء التعنت الإسرائيلي المتمادي منذ سنوات في المراوغة والرفض.
حل الدولتين يعني، بشكل من الأشكال، إرساء السلام وفق قواعد التعايش السلمي. الحكومات الإسرائيليّة المتلاحقة لم تبدِ رغبات جديّة بالسلام، والدليل إهمالها المبادرة العربيّة للسلام التي أقرت في قمة بيروت (2002)، لأنها تقوم تحديداً على مبدأ الأرض مقابل السلام. هي لا تريد أن تتخلى مطلقاً عن أي شبر من الأرض.
كما أن المجتمع الإسرائيلي لا يرغب بالسلام (ربما باستثناء قلة محدودة من اليهود المناهضين للصهيونيّة والذين يتعرضون بدورهم للتنكيل من سلطات الاحتلال)، وما يتصدّر وسائل التواصل الاجتماعي من شرائط مصوّرة تعكس عمق الكراهيّة والحقد تجاه الفلسطينيين، يؤكد هذا الأمر.
ولكن، بمعزل عن كل تلك الاعتبارات، لا يمكن التغاضي عن العقبة الكبرى التي تتمثل بالتوسع الاستيطاني، بحيث يُقدّر عدد المستوطنين في الضفة الغربيّة نحو 800 ألف مستوطن، وقد زُرعوا في أحياء ومناطق فلسطينيّة مختلفة لاختراق وحدة الضفة الغربيّة ونسيجها الاجتماعي، ولمضاعفة المصاعب أمام السلام.
إن أي تفكير بحل الدولتين لا يلحظ تفكيك المستوطنات هو بمثابة التفاف على التسوية وإبقاء صواعق التفجير في داخلها بما يُعطّل فرص نجاحها، وهذا على الأغلب ما يريده الاحتلال الذي انتعشت أحلامه بفكرة إسرائيل الكبرى بعد حرب عام 1967 التي سيطر بعدها على أراضٍ كبيرة؛ هي الجولان وسيناء والضفة الغربية.
ثم ماذا عن القدس؟ وماذا عن اللاجئين والشتات؟ وماذا عن الحدود النهائية وهي القضايا التي تركتها اتفاقية أوسلو دون حسم أو حل؟ يحق للشعب الفلسطيني أن يقرر مصيره، ويحق له أن ينال الاستقلال والدولة المستقلة القابلة للحياة وليست الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية التي تفرغها من كل مضمونها السيادي والسياسي؛ وحتى الديمقراطي.