فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

المدنيون الضحايا!

استمع إلى المقالة

يقترب قدوم الأسبوع الخامس من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولا يلوح في الأفق موعد قريب لوقف حرب، لم يطل زمنها ويتواصل شلال الدماء فيها فقط، بل تعددت جبهاتها وأطرافها، وأخذت شكل حرب عالمية في منطقة، لا يزيد سكانها عن مليونين وربع مليون نسمة، ولا تتعدى مساحتها 360 كيلو متراً مربعاً، يمكن لشخص أن يقطع محيطها بسيارة خلال ساعات قليلة.

شكل الحرب ومحتواها وأهدافها، رسمته الحكومة الإسرائيلية، التي يقال في العالم من باب توصيفها، إنها حكومة متشددين متطرفين وإرهابين، استندت في تبريرها إلى عملية «طوفان الأقصى»، التي قامت بها كتائب القسام التابعة لحركة «حماس» فيما يسميه الإسرائيليون غلاف غزة، الذي يشمل الجدار الإسرائيلي المحيط بغزة والمستوطنات القريبة منه، وأدت إلى قتل واختطاف إسرائيليين، صاروا في قبضة «حماس»، التي تصفها أوساط في العالم بأنها تنظيم إرهابي.

أغلب الذين قتلوا وجرحوا في الحرب على غزة وقبلها في عملية «طوفان الأقصى» من المدنيين طبقاً لتوصيفهم الواقعي، ويشمل التوصيف فلسطينيي القطاع الذين دمرت بيوتهم وممتلكاتهم ومصادر عيشهم، وتحولوا إلى مشردين وسط حصار وفقدان الاحتياجات الأساسية من ماء وغذاء ومأوى، مما حوَّل حياتهم إلى جحيم لا يطاق، يرى بعضهم، أن الموت أفضل منه.

تتجاوز المعاناة، التي صار إليها فلسطينيو القطاع الذين لا يجدون من يساندهم ويخفف الجحيم المحيط بهم، أية أهداف لمن خططوا ونفذوا «طوفان الأقصى»، التي أطلقت الوحشية الإسرائيلية والدعم العالمي الواسع لها إلى أبعد الحدود، خاصة بعد أن احتضنت الحكومة الإسرائيلية ضحايا «طوفان الأقصى» من مواطنيها لأهداف سياسية، وتركت أسراها تحت قبضة «حماس» دون أدنى إحساس بالمسؤولية، لأن وجودهم هناك، يدعم مسارها الوحشي، ويبرره ضد الفلسطينيين.

ورغم أن مسار الدم والدمار الذي يلف الضحايا المدنيين لحرب إسرائيل على القطاع ولعملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها في الضفة الغربية، فإن المسار يتجاوز ما سبق إلى مسارات وساحات أخرى في المنطقة، تسعى للتأثير على ما يحصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والإشارة تتعلق بصورة أساسية بـ«حزب الله» اللبناني، الذي أخذ يتبادل القصف مع الإسرائيليين عبر الحدود بين الطرفين وفق ما يسمى «قواعد الاشتباك»، وقد بدأ يطلق تأثيرات الدم والدمار على المدنيين في الجانبين.

ويمثل دخول «حزب الله» اللبناني على خط إيذاء الضحايا المدنيين جزءاً من تحرك تآلف تديره إيران في المنطقة تحت شعار «المقاومة والممانعة»، يضم الميليشيات الشيعية والقوى المرتبطة بإيران في لبنان والعراق واليمن، و«حماس» و«الجهاد» الفلسطينيتين والحوثيين في اليمن ونظام الأسد في سوريا وتنظيمات وجماعات حديثة التكوين تتبع إيران في سوريا، وقد شاركت أغلب هذه الأطراف في إرسال إشارات مختلفة المستوى، تعبر عن دعمها لحركتي «حماس» و«الجهاد» في المواجهات القائمة مع الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وكان أبرز تلك الإشارات ما تم تداوله في الإعلام عن طائرات مسيَّرة بعثها حوثيو اليمن باتجاه إسرائيل.

يعيدنا وجود إيران على رأس هذا التآلف إلى تفاصيل دورها في المنطقة، في بناء وتعزيز وجودها الاستراتيجي عبر خطين أولهما إحكام سيطرتها على ما أمكن من بلدان عبر خلق وتصعيد الصراعات الداخلية بين النظام ومعارضيه على نحو ما حصل في سوريا، أو من خلال تنمية الصراعات بين الطوائف والجماعات السياسية والعرقية، كما حصل في لبنان واليمن والعراق وفلسطين، والخط الثاني دخول طهران على الصراعات البينية في المنطقة للحصول على موطئ قدم، يعطي إيران فرصة تأثير على الأطراف، مما يعزز مكانتها في الإقليم، ويوسع نفوذها، وهذا ما تفعله في تدخلها في مجريات الصراع العربي - الإسرائيلي والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي خاصة.

ولا شك أن الأثر الرئيسي والمباشر لسياسات إيران في الإقليم، تجسده في مسارات الدم والدمار، التي بات تغطي العديد من بلدان المنطقة، وهي مرشحة لتشمل ما أمكن من بلدان، حتى لو بدت بعيدة عن تلك المسارات، غير أن هذا لا يعني أن إيران بعيدة عن مسار الدم والدمار الداخلي، إذ ثمة مستويان من الصراع فيها؛ الأول صراعها مع المعارضة السياسية، وهو صراع ينفجر علانية وبصورة واسعة ليأخذ شكل حراك شعبي واسع بين وقت وآخر على نحو ما كانت حركة الاحتجاج الإيرانيّة 2022 عقبَ مقتل شابّة إيرانيّة، تعرضت لضرب مبرح أثناء احتجازها من شرطة الأخلاق التابعة للحكومة، وكان مقتلها بدء مسار دم طال مئات من المعتقلين، والثاني مواجهات مع الجماعات الكردية، حدث آخرها العام الماضي في المناطق الكردية في إيران، والى جانبها هجمات شنها نظام الملالي على معسكرات في العراق، وقُتل وجُرح في الحالتين مدنيون أكراد، ودُمرت حياة آخرين غيرهم.

ودور إيران في مسار دم الضحايا ودمارهم في سوريا، هو الأكثر حضوراً وأثراً في العقد الماضي، وباستثناء أنها دعمت سياسياً واقتصادياً وعسكرياً والميليشيات التابعة لها نظام الأسد في حربه على السوريين، فإنها شاركت وميليشياتها في الحرب مباشرة، وقتلت عشرات آلاف المدنيين في القلمون الغربي وريف حمص وغرب وجنوب دمشق وفي شرق سوريا، ودمرت بيوتهم وممتلكاتهم، وهجرت أغلب من بقي حياً على نحو ما حدث على خط الحدود السورية مع لبنان في ريفي حمص ودمشق.

وللحقيقة، فإن تأثير إيران في حياة المدنيين، يتجاوز ما حصل في الماضي إلى المستقبل، حيث تضع عمليات تشييع بعض السوريين هؤلاء على قاعدة صراعات مقابلة مع مواطنيهم في المستقبل بفعل ما يمكن أن يكون من اختلاف بينهم حول التشييع الإيراني ودور إيران في سوريا الذي سيمر وقت طويل قبل أن ينساه السوريون أو يتناسوه، كما سيكون لإيران دور مؤثر على حياة السوريين في المستقبل بسبب ما قامت به من استيلاء وسيطرة على موارد وأنشطة منحها إياها نظام الأسد بشروط هينة رداً لديونها ومساعداتها له في الحرب على السوريين.

لا يحتاج إلى تأكيد، أن الكتابة عن الضحايا المدنيين في منطقتنا، لا يمكن أن تستقيم دون تناول أوضاع الضحايا في اليمن وإخوانهم في السودان وفي لبنان والعراق وليبيا، وفيها جميعاً حشود ضحايا مدنيين، تطحنهم قتلاً وجرحاً وتدميراً قوى مسلحة وميليشيات غاشمة منحرفة ومتطرفة مملوءة بالأحقاد والجوع للسلطة والمال، حتى ولو تقنعت بألف قناع آيديولوجي ديني أو قومي، ورفع شعارات أثبت الواقع أنها الأبعد عنها، وأن استعمالها لا يتجاوز حدود الكذب والخداع على الناس.

وثمة إشارة أخيرة لا بد منها، وهي أن تاريخ المنطقة في القرن الماضي، كان تاريخ انتهاكات حقوق وكرامات المدنيين وتحويلهم إلى ضحايا، انتهاكات ارتكبتها قوى التدخل الخارجي الإقليمي والدولي في شؤون المنطقة، الأمر الذي جعل حياة أغلب سكان المنطقة وسط خوف وهلع دائم مما يحدث، ومما يمكن أن يحصل، لقد عاش أغلب سكان المنطقة أعمارهم، وهم ينتظرون كوارث متوقعة، بدل أن يعيشوا من أجل مستقبل أفضل، وتقدم ونجاح يليق بالإنسان.