تسعى الكثير من الدول إلى التعاون مع جاراتها من البلدان للوصول إلى تكامل اقتصادي يحقق الازدهار لشعوبها، ويعطيها الثقل الاقتصادي الذي يمكّنها من تحقيق مصالحها ككتلة واحدة. ويبرز الاتحاد الأوروبي بوصفه أقوى كتلة إقليمية متعددة الدول وصلت إلى ذروة التكامل الاقتصادي في ما بينها. كما تبرز مجموعات أخرى لم تصل إلى هذه المرحلة من الاكتمال، ولكنها حققت مبتغاها مثل دول «نافتا» وهي اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. وهناك نموذج آخر فريد من نوعه، هو لدول آسيا التي حققت تكاملاً اقتصادياً بطريقة منفردة، مكنتها من إخراج عدد كبير من سكانها من تحت خط الفقر خلال العقود الأخيرة، وهو إنجاز لم يتحقق في أي منطقة أخرى من العالم. فكيف نجحت دول آسيا في تحقيق هذا التكامل الاقتصادي في زمن شهد أزمات مالية وجيوسياسية خانقة؟
بداية، يعرّف التكامل الاقتصادي على أنه تحرير وتسهيل تدفق التجارة والسلع والخدمات والاستثمار وحركة الأشخاص عبر الحدود. هذا التعريف شبه شمولي، وقد يتحقق التكامل الاقتصادي دون تحقيق جميع عناصره. فعلى سبيل المثال، لم تلتزم مجموعة «نافتا» ببعض هذه العناصر، ولكنها نجحت في الوصول إلى بعض أهدافها، بينما التزم الاتحاد الأوروبي بكامل العناصر، ووصل إلى مستوى لم تبلغه كتلة اقتصادية من قبل. عدم الالتزام بشروط التكامل الاقتصادي لا يعني عدم النجاح فيه، وفي الحالة الآسيوية خير مثال على أن النجاح ليست له وصفة محددة، بل هو مزيج من العمل المشترك والسعي الدؤوب خلف المصالح المتبادلة، وإيجاد الحلول للعوائق التنظيمية التي تحول دون التبادل التجاري عبر الحدود.
وتختلف الدوافع لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول المتجاورة، فعلى سبيل المثال كان أحد الدوافع لتأسيس الاتحاد الأوروبي يكمن في الرغبة في تجنب حرب قارية أخرى، بعد سلسلة من الحروب بين هذه الدول. أما آسيا، والتي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة بـ «مصنع آسيا»، فقد كان الدافع هو تكامل السوق لتحقيق مصالحهم الاقتصادية. وخدم ذلك الاستراتيجية المشتركة لهذه الدول وهي القائمة على التوجهات التصديرية والاندماج في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.
ولم تكن طريق الدول الآسيوية في تحقيق تكاملها الاقتصادي سهلة، فصحيح أنها واجهت عالماً نامياً منفتحاً أمام التجارة العالمية وهو ما يسّر لها مهمتها، لكن العوائق الداخلية شكّلت تحدياً كبيراً لها، فالدول الآسيوية على عكس الأوروبية شديدة الاستقلالية، وحساسة للتدخلات الإقليمية فيها، وتملك إرثاً من الحروب الداخلية والكراهية المتبادلة في ما بينها تغذي هذه الرغبة الاستقلالية. كما أن أنظمتها السياسية متنوعة ومتناقضة، ففيها أنظمة ديمقراطية وعسكرية وشيوعية وملكية، وهو ما يجعل الرغبة في التعاون محل تشكك مستمر.
ومع كل ذلك، فإن نمو الدول الآسيوية والذي تؤكده أرقام النمو المذهلة لهذه الدول، لم يتحقق بفعل تجارة دول آسيا مع العالم الغربي أو الدول غير الآسيوية فحسب، بل جاء وبنسبة كبيرة بفعل التبادل التجاري بين الدول الآسيوية في ما بينها. وهذه بعض الأرقام التي تؤكد ذلك والتي نشرها بنك التنمية الآسيوي في تقريره هذا العام؛ فالتبادل التجاري داخل آسيا وصل إلى 46 في المائة في 2010، وزاد إلى 58 في المائة عام 2021، والاستثمارات الآسيوية البينية زادت من 48 في المائة إلى 59 في المائة بين هذين العامين. وزاد تدفق الاستثمارات المباشرة بين الدول الآسيوية بضعف مثيله من الاستثمارات الغربية. وحتى مع الأزمات المالية، زادت نسبة الإقراض المصرفي من 40 في المائة بُعيد الأزمة المالية إلى 54 في المائة اليوم.
ولا تزال الدول الآسيوية حتى اليوم تسعى في زيادة هذا التكامل لإزالة الحواجز التجارية من خلال اتفاقات جديدة مثل الشراكة الإقليمية الشاملة، ولعل قمة الرياض لدول «الآسيان» ودول الخليج أحد هذه المساعي من الدول الآسيوية لزيادة شراكاتها مع الدول لزيادة تبادلها التجاري، وتحقيق الازدهار لشعوبها.
إن الدول الآسيوية، وعلى الرغم من كل نزاعاتها العسكرية الدموية التاريخية، ورغم عدم امتلاكها ثقافة مشتركة، أو لغة موحّدة، أو حتى تاريخاً وكفاحاً مشتركاً، تمكنت من تجاوز ذلك كله لتحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعوبها، وتمكّنت من إخراج مئات الملايين من تحت خط الفقر بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، ودون المساس بسيادتها الداخلية. فما الذي ينقص الأقاليم الأخرى والتي ليس لديها حتى نصف هذه الصعوبات، والتي تمتلك من الثروة الطبيعية والبشرية والإرث التاريخي، ما لا تمتلكه الكثير من الدول الآسيوية، ولا حتى الغربية؟