فرهاد علاء الدين
مستشار العلاقات الخارجية لرئيس مجلس الوزراء العراقي
TT

العراق وسياسة التوازن في العلاقات الخارجية

استمع إلى المقالة

منذ أن اضطلعت الحكومة العراقية بمسؤوليتها في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وهي تركز على مد جذور الدبلوماسية العراقية على الساحتين الإقليمية والدولية، من خلال ممارسة سياسة التوازن في العلاقات، والابتعاد عن سياسة المحاور، والهدف من هذه السياسة كما جاء في كلمة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر (أيلول) هو من أجل «حفظ أمن واستقرار المنطقة وتقدمها وازدهارها الاقتصادي بما يحقق رفاهية شعوبها».

ومن هذا المنطلق، تأتي الزيارة للعاصمة الروسية موسكو متسقة مع مبدأ تنتهجه حكومة بغداد، وهو الدبلوماسية المنتجة.

فقد حرص رئيس مجلس الوزراء منذ تشكيل الحكومة، على زيارة العديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، ودول الجوار مثل الأردن والكويت والإمارات العربية المتحدة وإيران وتركيا، وشارك في مؤتمر القمة العربية - الصينية الذي أقيم في المملكة العربية السعودية، والهدف هو تعزيز العلاقات وبناء الشراكات والمصالح المشتركة مع الدول الصديقة والشقيقة والشريكة، وهو الآن يلبي دعوة رسمية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الإطار نفسه، خصوصاً أن زيارة الكرملين تتزامن مع انعقاد «منتدى أسبوع الطاقة»، ورئيس الوزراء هو أحد المتحدثين الرئيسيين في هذه المناسبة.

ويرتبط العراق مع روسيا بعلاقات ثنائية أمَدُها ثمانية عقود من الزمن، وتشمل هذه العلاقات جوانب عديدة؛ أهمها الاقتصادية والعسكرية. وقد قامت روسيا بشطب 93% من الديون العراقية وقدرها 12.9 مليار دولار في عام 2008، وتعمل مجموعة من الشركات الروسية النفطية العملاقة في العراق. تُطور شركة «لوك أويل» حقل القرنة الغربي وتنتج 480 ألف برميل يومياً. فيما تعمل شركة «غازبروم» في إقليم كردستان وحقول بدرة في الجنوب، يضاف إليهما شركات أخرى تعمل في مجال النفط والكهرباء. فيما أكد الرئيس الروسي في تصريح له يوم 5 أكتوبر رغبة روسيا الشديدة في المشاركة في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية، وبالأخص مشاريع النقل والطاقة.

في الوقت ذاته، تطوير التعاون بين العراق وروسيا مهم لسوق الطاقة العالمية؛ إذ إن العراق ثاني أكبر مصدّر للنفط في منظمة «أوبك»، وتترأس روسيا مع المملكة العربية السعودية «أوبك»، ويتعاون العراق مع روسيا وبقية الأعضاء في رسم خارطة الصادرات النفطية للدول المشتركة في «أوبك» بما يخدم استقرار أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهذا الاستقرار عامل أساسي في نمو الاقتصاد العالمي والمحلي، ويوازن بين حاجات الدول المصدرة والمستهلكة على حد سواء.

على الصعيد الأمني، وخلال السنوات العشر الأخيرة لعبت روسيا دوراً محورياً في تماسك الحكم في سوريا وعدم وقوع البلد بيد الإرهابيين من الدواعش والجهات التكفيرية المتطرفة. يعدّ العراق الاستقرار السوري من دعامات الأمن الوطني العراقي؛ إذ إن «داعش» وظهوره وتمدده جاء من سوريا، وأي انهيار أمني في سوريا سيعني زعزعة استقرار وأمن العراق برمته.

كما أن الابتعاد من سياسة المحاور يعني توطيد العلاقة مع الأطراف المتنافسة في المحورين، وجعل العراق في منطقة توازن بإمكانه ممارسة دور الوسيط لو طلب منه ذلك. وهذا الدور أتى بثمار كبيرة في المنطقة، بعد أن أصبح العراق وسيطاً وجسراً متيناً لتقريب وجهات النظر السعودية – الإيرانية، وإيصال هذه الوساطة إلى حد الاتفاق التفصيلي، وخاتمة الوساطة جاءت بتوقيع الاتفاقية في بكين. ودأبت بغداد على التقارب مع محيطها الإقليمي والعربي من خلال مشاريع اقتصادية مشتركة مثل طريق التنمية لربط «الفاو» مع الحدود التركية، وخط السكك الحديدية بين البصرة وشلامجة الإيرانية، والربط الكهربائي مع مصر والسعودية والأردن ودول الخليج، لكنها أيضاً تتطلع لمزيد من التعاون الاقتصادي مع اللاعبين الكبار على الساحة الدولية، ومن بين هؤلاء روسيا التي تربطها بالعراق مصالح اقتصادية في مجالات النفط والطاقة والزراعة.

وتأتي زيارة رئيس الوزراء العراقي للعاصمة الروسية موسكو في خضم حرب مشتعلة منذ أكثر من عام ونصف، أثرت على العالم عموماً، وعلى الشرق الأوسط خصوصاً. ويدعو العراق بشكل دائم لحل هذه الحرب بالطرق السلمية والحوار، مما يسفر عن «سلام شامل وعادل ودائم»، وهذا ما دعا العراق للتصويت في الأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2023 على مشروع قرار يدعو لسحب القوات الروسية من أوكرانيا، فالعراقيون هم أكثر الشعوب علما بمآسي وآلام الحرب، لأنهم عاشوا عقوداً من الزمن في الحروب المدمرة ونتيجتها الخراب والدمار للشعوب والبلدان.

وتعي الحكومة في بغداد الموقف العراقي المتوازن من الحرب في أوكرانيا ودعوته المستمرة للحوار بوصفهما حلاً وحيداً بعد قرابة عامين؛ إذ يدفع العالم كله ثمناً لاستمرارها. إنهاء الحروب هو المفتاح لازدهار العراق واستقرار المنطقة، ما يفتح الباب أمام تركيز الجهود على التنمية الاقتصادية التي تنشدها الحكومة منذ تشكيلها في أكتوبر من العام الماضي.

ليس لدى العراق خطوط حمراء أو تعارض مع الدول التي تتعامل معها؛ إذ إن الزيارات الرسمية مركزة على المصلحة المشتركة بين العراق والدولة المضيفة، ويرتبط العراق مع هذه البلدان بعلاقات متينة وقديمة. ولهذا السبب، فإن زيارة موسكو ستعقبها زيارة إلى كييف وواشنطن وعواصم أخرى يتم الإعلان عنها في جدول زيارات رئيس الوزراء في الأسابيع والأشهر المقبلة.

العلاقات الخارجية العراقية هي إتمام وإكمال لما جاء في البرنامج الحكومي في تطوير هذه العلاقات مع الدول الصديقة والشقيقة من أجل استقرار العراق وإبعاده عن سياسة المحاور، وتحويل الساحة العراقية من منطقة صراع إلى منطقة تلاقي المصالح. والعراق يسير في الاتجاه الصحيح المبني على أساس أن يقف على مسافة تَقِيه من شرور الاستقطاب في صراع لا يود أن يكون طرفاً فيه، ولكن ممكن أن يساهم في تقريب وجهات النظر ويطرح الحلول.