د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

القيم الحاكمة

استمع إلى المقالة

سأل مذيع تلفزيوني أميركي نجم فرقة البيتلز البريطانية عن رأيه في إقامتهم حفلاً في أمريكا بمنطقة تسكنها أغلبية من ذوي الأصول الأفريقية تواجه الفصل العنصري (عام 1964). فقال له الشاب الإنجليزي بنبرة حاسمة: إننا لن نقبل أن يكون هناك فصل عنصري بين الأبيض والأسود... نحن نغني للجميع. وليس لدينا ذلك في بريطانيا، وهو أمر يندى له الجبين. ثم أضاف قائلاً: سوف نغادر الحفل إن فُرِض على الجمهور الفصل. هذا الموقف مرتبط بقيم يحملها ذلك الشاب وفرقته.

كما أذكر أنه في ليلة مباراة نهائي كأس العالم لكرة القدم في قطر راجت شائعة مفادها أن المنظمين لديهم تعليمات بإطفاء الأنوار كرد فعل فوري إذا ما قام أحد الفريقين (الفرنسي تحديداً) برفع إشارات تدعم «المثليين» في منصة التتويج؛ لكونها تخالف قيم الدولة المضيفة. لم أجد مصدراً لتلك الحكاية، لكن ردود أفعال المنظمين في أول الأمر أظهرت أنهم قد حاولوا فعلياً منع اللاعبين وما أمكن من الجمهور من ارتداء شارات تدعم المثلية.

ما حدث في القصتين هو مسألة «قيم»، وهي التي تحدد سلوكيات البشر، بغض النظر عن الدين أو المذهب. فهناك قيم حاكمة أو رئيسية يصعب تغييرها مع مرور الزمن؛ لأنها متجذرة في أعماق المرء مثل الكرامة والاحترام. وأخرى تُعد قيماً ثانوية قد تتغير مع مرور الزمن. فهناك من يختار أن يكون انتهازياً بغض النظر عن وضاعة تصرفه. تجده مستعداً للتنازل عن «كرامته» مقابل حفنة من الدنانير. أما القيم الراسخة، فيصعب أن تتغير بسهولة؛ لأنها تشكل كيان المرء، وشخصيته، وما يحب أن يُعرَف به. الناس تحب فلانة أو المؤسسة الفلانية لأن سلوكها يعكس قيمها. عندما تعتنق شركة قيمة «الجودة» يراها المرء في كل مرافقها ومنتجاتها، وخير مثال ركن الأطعمة في «ماركس آند سبنسر».

حينما تعلن إحدى الشركات أن «النزاهة» قيمة رئيسية يتوقع المتعاملون معها ذلك في شتى عملياتها. ليس كما حدث مع شركة «إنرون» للطاقة الأميركية التي زيّنت تلك القيمة Integrity تقريرها السنوي عام 2000 قبل أن تهوي إلى الحضيض بعد فضيحة التلاعب بعمليات الأرباح والخسائر الوهمية، فاتهمت بها شركة «آرثر آندرسن» للتدقيق المحاسبي التي أقصيت للأبد من قائمة أفضل خمس شركات محاسبية في العالم. وأسفرت تلك الحادثة عن خسائر فادحة للمستثمرين، وأجريت بعدها تغيرات جذرية في قواعد التدقيق والحوكمة والقوانين حول العالم.

وتتفاوت القيم بحسب الموقف الجغرافي أو البيئة. ففي أمريكا عندما يدنس أحد عَلَمها لا يسجن بتهمة «الإهانة». وذلك بعد الحكم الشهير الصادر من المحكمة العليا لشاب رأى حرقه العلم تعبيراً عن الرأي استناداً إلى الدستور. وكذلك الحال في اليابان وفرنسا (قبل أن تغيرا قانونيهما). والمفارقة، أن الرئيس الأمريكي ترمب قد حذر من مغبة حرق العَلم، وضرورة أن «يجرد المرء من المواطنة ويزج به في السجن».

هذا التناقض بين القيم هو ما يدفع بوجود قوانين تضع حداً فاصلاً بين «لخبطة القيم». فما أراه لباساً محتشماً قد يراه آخرون فاضحاً. وتفسير انتهاك «الآداب العامة» كان وما زال معضلة في الفهم منذ كنا ندرس مادة القانون «أصول الالتزام» على مقاعد الدراسة الجامعية.

القيم تفرقنا كبشر عن سائر الكائنات الحية... والبهائم. وأرسخها في وجداننا «القيم الحاكمة» لسلوكنا. وعندما لا يتبقى للمرء أي قيمة يحيا من أجلها يصعب التفريق بينه وبين تلك الكائنات!