علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

نجيب محفوظ يسلخ جلد أستاذه منصور فهمي

استمع إلى المقالة

قرأنا في المقال السابق أن نجيب محفوظ في «مراياه»، قال عن دروس أستاذه في قسم الفلسفة إبراهيم عقل (منصور فهمي)، إنها «أقرب إلى التوجيهات العامة منها إلى المحاضرات الدسمة التي يلقيها علينا زملاؤه». قال هذا للإشارة إلى أنه غير مخلص في عمله، وللتقليل من شأن دروسه الجامعية، وللتهوين من قدره كمدرس جامعي.

وقرأنا قوله - أيضاً عنه: «وما لبث أن انقلب في مجالسنا نادرة ودعابة».

انقلب في مجالس طلبته إلى نادرة ودعابة، نتبين سبب ذلك من السرد التالي:

«ولم يكن من النادر أن ألقاه في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بقصره الكبير في المنيرة. وما أكثر من عرفت من أهل الفكر في ذلك الصالون العتيد... وعلى غير المألوف خاض الحديث في شؤون السياسة. وكنا نتجنبها إكراماً لأستاذنا صاحب الصالون؛ لعلمنا المسبق بنفوره من الأحاديث الانفعالية، ولكونه من المنتمين إلى الحزب الوطني بحكم أسرته ونشأته على حين أن تلاميذه جميعاً كانوا من شباب الوفد... وتكلم كثير من الطلبة الحاضرين حتى قال الدكتور إبراهيم عقل: إن حياتنا الدستورية مكسب، ولكنها في الوقت نفسه فخ!

فتحفز الشباب للنضال، ولكنه قال: انحرف الجهاد الوطني عن غايته الأولى، غرقنا في معاركنا الحزبية، ولدى كل انقلاب يحدث رد فعل فظيع في العلاقات والأخلاق، ويوماً بعد يوم يتفتت البناء الشامخ الذي ورثناه عن ثورة 1919.

فقال أحد أفراد مجموعتنا الشابة: بناء الشعب غير قابل للتفتت. ابتسم أستاذنا ماهر عبد الكريم وتفكرّ قليلاً، ثم قال بصوته الناعم الهامس: شعبنا مثل الوحش المذكور في بعض الأساطير الشعبية يستيقظ أياماً، ثم ينام أجيالاً. فعاد الدكتور إبراهيم عقل يقول: لن نضار البتّة إذا استمسكنا بالمثل العليا.

وجعل ينقّل عينيه الزرقاوين بين وجوهنا المتحفزة، ثم كرّر بنبرة منغومة: المثل العليا، المثل العليا. وكان يرددها كثيراً في محاضراته عن الأخلاق حتى أطلق عليه زميلنا عجلان ثابت، دكتور مثل عليا».

إبراهيم عقل أو منصور فهمي كان يدرّسهم في قسم الفلسفة مادة الفلسفة الأخلاقية أو علم الأخلاق. وكان في منهجه الفلسفي والاجتماعي ينحى إلى الدعوة للأخلاق الاجتماعية ويركز عليها أشد التركيز. وهذا ظاهر في عدد من مقالاته ومحاضراته منها: العائلة وإصلاح المجتمع، الضعف الأخلاقي وأثره في حياتنا الاجتماعية، كيف ينبغي أن تكون الأخلاق في مصر لتسهم في التعاون الدولي.

ووفقاً لهذا المنحى، كان يرى أن المجتمع إذا تحققت فيه المثل العليا، فإنه لن تكون لديه مشاكل سياسية ولا مشاكل اقتصادية ولا مشاكل اجتماعية إلخ...

ماهر عبد الكريم، كما أشرت إلى ذلك المقال السابق، اسم مستعار وضعه لأستاذه مصطفى عبد الرازق زميل إبراهيم عقل أو منصور فهمي في قسم الفلسفة في الجامعة المصرية. وقد قال عنه -للتضليل الفني- إنه من المنتمين إلى «الحزب الوطني» بحكم أسرته ونشأته. مع أنه هو وأسرته آل عبد الرازق منتمون إلى حزب «الأحرار الدستوريين». فأخوه الأكبر حسن باشا الصغير من مؤسسي هذا الحزب. ولقد سُمي بحسن الصغير للتمييز بينه وبين أبيهما الذي يحمل الاسم نفسه والذي كان يسمى بحسن باشا الكبير. وأبوهما اختير ليكون وكيل حزب «الأمة» الذي تحول اسمه فيما بعد إلى حزب «الأحرار الدستوريين».

وكان نجيب قبلها قد أورد هذا الحوار مع أستاذه منصور فهمي:

«ومرة سألته في أثناء مناقشة بقاعة المحاضرات: لِمَ لم تؤلف كتاباً يا دكتور؟

فرماني بنظرة متعالية وقال بصوته الجهوري: أتظن أن عالم الكتب في حاجة إلى المزيد؟

وجعل يهز رأسه الكبير فوق قامته المديدة، ثم قال: لو فرشنا بالكتب سطح الأرض لغطته مرتين!

ثم بامتعاض وازدراء قال: فلو عددنا الكتب المتضمنة جديداً من الفكر لما غطت سطح زقاق!»

هذا التفسير العدمي لانصرافه عن التأليف الذي رواه نجيب بقلم الكاره لشخص أستاذه ولتوجهه الفلسفي والاجتماعي والسياسي، رواه طاهر الطناحي بقلم المحب لشخصه والمقدّر لطريقته في الكتابة والخطابة والتدريس في مقال نشره في مجلة «الهلال» عدد مايو (أيار) 1959.

ففي هذا المقال طرح سؤالاً، هو: لماذا لم يؤلِّف؟

أجاب عنه قائلاً: «وقد عاش منصور فهمي أستاذاً ومحاضراً وكاتباً. ولو جمعت محاضراته وكتاباته لملأت عدداً من الكتب، ولكنه رحمه الله كان لا يميل كثيراً إلى التأليف. وعلى الرغم من أنه تولى منصب المدير العام لدار الكتب المصرية، فقد كان يرى أن هذه الكتب المكدسة التي مات أصحابها ما هي إلا قبور أو جثث تراكمت في أنحاء المكاتب والحوانيت، وأن مقتنيها وبائعيها (تُربيون) يعيشون بجانب عالم من الأموات، وأن القليل منها جدير بالتقدير والتقديس لأنه يؤدي رسالة العلم والفن والحياة. أما الكثير من الكتب فهو مصنفات يكرر بعضها بعضاً».

وهذا التفسير قرأته بصيغة غير عدمية في أوراقه الخاصة التي قال تلميذه أحمد فؤاد الأهواني في مقدمته لكتاب «أبحاث وخطرات» إن زوجته الكريمة تفضلت بإطلاعه عليها. إذ نستطيع أن نقول عن هذا التفسير إنه مقبول ومقنع.

زوجته هي انصاف سري. وهي من رائدات التعليم والتربية في مصر.

يحكي نجيب محفوظ عن موقف حصل له مع أستاذه منصور فهمي في كازينو الأنفوشي بالإسكندرية. ونستنتج مما حكاه أن هذا الموقف الذي حصل كان في عهد حكومة إسماعيل صدقي التي كان أيامها ما يزال نجيب محفوظ طالباً من طلابه.

قال نجيب محفوظ في تقديمه لهذا الموقف: «وقدمنا الدكتور إلى حرمه، وأظنها كانت مفتشة بوزارة المعارف. ولاحظت بسرور غرامه الأبوي بابنيه، وملاطفته لهما مما دعا زوجه لإعلان استنكارها لتدليله لهما. واستمالني لأول مرة بعواطفه الأبوية، فلم أكِنّ له احتراماً يذكر لعزوفه عن التأليف، ولعدم إخلاصه في عمله».

هل عزوف أستاذك الجامعي عن التأليف مسوّغ وجيه لكراهيته أو عدم احترامه؟!

وهل صحيح أن منصور فهمي كان غير مخلص في تدريسه الجامعي؟

طاهر الطناحي في مقاله السالف، قال: «وكان يدرّس الفلسفة وعلم الجمال بأسلوب جديد».

وقال محمود تيمور قبله في كتابه «ملامح وغصون»: «درس منصور فهمي الفلسفة وما يتصل بها من فروع العلوم والآداب ثم شرع يدرّسها في الجامعة، ولكنه لم يكن يلقيها دروس معلومات ومقرّرات، وإنما كان ينفض في دروسه قلبه وعقله وفكره، فيبث روحه في أنفس طلابه، ويثير بين جوانحهم رغبة البحث والتطلع والتأمل، توصلاً إلى تعرف القيم الإنسانية في حرية وإخلاص».

وقال تلميذه أحمد فؤاد الأهواني الذي تخرّج في الجامعة المصرية قبل أن يلتحق نجيب محفوظ بها: «أما منهجه في التعليم فكان أبعد الأشياء عن التلقين. ولذلك لم يكن يهيئ في محاضراته موضوعات مقررة ندونها كي نحفظها عن ظهر القلب ثم نستعيدها في الامتحان، وإنما كان يدير محاضراته على الأسئلة وعرض المشكلات ومحاولة حلّها والتفكير فيها. كانت طريقته أشبه شيء بمحاورات سقراط يهدف منها إلى انتزاع المعرفة من النفس، واستثارة التفكير. وهذه أمثل طريقة تفتح العقول وتكونها وبخاصة في بحث الأمور الأخلاقية والنفسية».

التعليل الحقيقي، نستشفه من المقاطع التالية:

«وفي مطلع العام الدراسي تولى الدكتور إبراهيم عقل منصباً جامعياً كبيراً، ولكنه اغتال في سبيله جميع مثله العليا. كانت الهتافات العدائية للسراي تتردد في جنبات الوادي... وانقسمت البلاد إلى أقلية موالية للملك، وأغلبية معادية تكاد تجهر بعدائها. وإذا بالدكتور إبراهيم عقل ينشر مقالة في الأهرام يدعو فيها إلى الولاء لصاحب العرش وينوِّه بأيادي أسرته على نهضة البلاد، وبخاصة محمد علي وإسماعيل».

المنصب الجامعي الكبير يشير به نجيب محفوظ إلى مسألة قبول منصور فهمي بالترشح إلى انتخاب منصب عمادة كلية الآداب عام 1932، بإيعاز من إسماعيل صدقي رئيس الوزراء، وفوزه بهذا المنصب، لأنه كان الأستاذ الجامعي الوحيد الذي قبل بالترشح للانتخاب في تولي هذا المنصب. وكان قبلها يشغل منصب وكيل كلية الآداب.

وكان هذا المنصب قد خلا بعد نقل إسماعيل صدقي لطه حسين منه إلى وظيفة مساعد لمراقبة التعليم الأوّلي في وزارة المعارف العمومية. وهي وظيفة متدنية مقارنة بالوظيفة العليا التي كان يشغلها بكلية الآداب. فرفع طه حسين قضية ضد هذا القرار التعسفي. وخصمه المرفوع عليه هذه القضية هو حكومة إسماعيل صدقي.

وقد تطورت الخصومة بين رئيس الحكومة إسماعيل صدقي، وعميد كلية الآداب السابق طه حسين إلى اتخاذ مجلس الوزراء في جلسة 30 مارس (آذار) قراراً بفصل طه حسين من الخدمة الحكومية.

للخصومة بينهما أسباب متعددة، ولها تفاسير مختلفة. لذا لن أعرض لأسبابها ولا لتفسيراتها، لأن سردها سيطول. وأكتفي بذكر أن حكومة صدقي كانت مكروهة ديمقراطياً لانتهاكها القيم الدستورية التي مرجعها دستور 1923. وذكر أن طلبة الجامعة المصرية، وكانت وقتذاك مكونة من أربع كليات هي: الآداب، والحقوق، والعلوم، والطب، كانوا ساخطين على إعفاء طه حسين من منصب عميد كلية الآداب، ونقله إلى وزارة المعارف العمومية في أول شهر مارس عام 1932، فقاموا بإضراب ومظاهرات مطالبين بعودته عميداً لكلية الآداب، واشتد سخطهم لمّا نقل من الخدمة الحكومية. وللحديث بقية.