من المؤكد أن تكون هناك آثار بعيدة المدى للممر الاقتصادي الذي أُعْلِنَ عنه في أثناء انعقاد قمة مجموعة العشرين في 9 سبتمبر (أيلول)، للربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. وقد لا تكون مبالغة ما قاله الرئيس الأمريكي بايدن، من أن هذا الإنجاز الاستراتيجي يشكل نقطة تحول في تاريخ المنطقة.
الممر الجديد هو في الحقيقة ممران مترابطان: الممر الشرقي يربط الهند بالخليج العربي، والممر الشمالي يربط الخليج بأوروبا. والدول المشاركة فيه حتى الآن هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة، والهند، وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وتشكل الدول السبع أكثر من 40 بالمائة من الاقتصاد العالمي. وقد أعلن الاتحاد الأوروبي أنه جزء من هذا الممر، ما سيضيف ثقلاً إضافياً اقتصادياً وسياسياً للمشروع.
المشروع الجديد، من وجهة نظر خليجية، يكرّس دور المنطقة التاريخي، بوصفه ممراً أساسياً يربط قارة آسيا بقارتي أفريقيا وأوروبا. أما تأكيد المشروع على نقل الطاقة فإنه يكرس الميزة النسبية لدول الخليج في قدرتها على تأمين إمدادات الطاقة بموثوقية وأسعار متدنية لبقية أنحاء العالم، وهي طاقة تقليدية (النفط والغاز) في الوقت الحاضر، ولكن سينضَمُّ إليها تصديرُ الطاقات المتجددة مستقبلاً.
ويمكن لهذا الممر أن يحفز التنمية في الدول التي يمر بها ولمن ينضَمُّ إليه لاحقاً من خلال تفعيل التكامل الاقتصادي والبنية التحتية للطرق والموانئ بين آسيا والخليج العربي وأوروبا. ولكن استفادة كل دولة ستتوقف على مدى استعدادها لاستثمار الموارد اللازمة لذلك، وحل الإشكالات السياسية الموجودة حالياً.
ويبدو المشروع الجديد طموحاً جداً؛ إذ أشار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى أن الممرّ سوف يُسهم في تطوير وتأهيل البنى التحتية التي تشمل السكك الحديدية، وربط الموانئ، وزيادة مرور السلع والخدمات، وتعزيز التبادل التجاري، ومدّ كابلات نقل البيانات من خلال شبكة عابرة للحدود، ومد خطوط الأنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين، وتطوير الطاقة النظيفة، وتوليد فرص عمل جديدة.
وتُظهر تصريحاتُ الدول الأخرى المُشاركةُ في المشروع طموحاً متنامياً، حيث تتطلع إلى أن يُسهم في زيادة الكفاءة الاقتصادية عن طريق تقليل التكاليف، وتعزيز التكامل الاقتصادي بين مكوناته، وتأمينٍ أكثر موثوقية لسلاسل الإمداد، وزيادةٍ أكبر للتبادلات التجارية، ومعالجةٍ أفضل للتأثيرات البيئية بتخفيض انبعاثات الكربون، وللتأثيرات الاجتماعية بتوفير فرص وظيفية أكثر؛ أي بعبارة أخرى تحول اقتصادي تكاملي بين أوروبا والخليج والهند.
وهذا طموح كبير سيتطلب المزيد من العمل لتحقيقه، ولهذا فوفقاً لبيان أصدره البيت الأبيض في اليوم نفسه، أعلن المشاركون في نيودلهي التزامهم بالعمل «بصفة جماعية وعلى وجه السرعة» لتنفيذ كل الخطوات اللازمة، وتأسيس أجهزة تنسيقية لمعالجة كل القضايا الفنية والتصميمية والقانونية والمالية والتنظيمية التي يتطلبها المشروع.
والحقيقة أن الالتزام السياسي واضح، لكن مذكرة التفاهم التي وقّعت عليها الأطراف في دلهي هي عبارة عن تعبير عن النيات لا يترتب عليه سوى التزامات أدبية أو سياسية؛ ولهذا فسوف يتطلب الأمر، كما أشار إعلان البيت الأبيض، إلى اتفاقات لاحقة لتحديد الالتزامات القانونية والمالية بدقة، ومن المرجّح أن نسبة التنفيذ سوف تعتمد على أولويات كل دولة وقدراتها التمويلية والفنية. فمن الواضح مثلاً أن الهند والولايات المتحدة حريصتان على نجاح الممر، وكذلك أظهرت الاجتماعات بين الجانبين الهندي والسعودي – بما في ذلك اجتماعات بين ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء مودي – حرص الدولتين على نجاحه، كما أظهرت ذلك مذكرات التفاهم والاتفاقات الكثيرة التي أُبرمت بينهما على هامش قمة العشرين، فالبلدان شريكان تجاريان مُهمّان، ويسعيان إلى تعزيز علاقاتهما الاقتصادية بشكل أعمق.
ويصب في الاتجاه نفسه، أي دعم الممر الجديد، الاتفاق السعودي - الأميركي الذي تُوُصِّل إليه لتأسيس «ممر أخضر» عابر للقارات، يستفيد من موقع المملكة الجغرافي لتنمية الطاقة الخضراء.
ومن وجهة النظر الأميركية فإن الممر الجديد هو تطبيق لـ مبادرة «الشراكة في البنية التحتية والاستثمار العالمي» (PGII) التي طرحها الرئيس بايدن لأول مرة في قمة مجموعة الدول السبع في عام 2022، وتوسع نطاقها في قمة المجموعة التي عُقدت في هيروشيما باليابان هذا العام.
ومنذ ذلك الحين، أعلنت الولايات المتحدة عزمها على دعم عدد من الممرات الاقتصادية واستثمارات البنية التحتية، وحشدت لذلك حتى الآن نحو 30 مليار دولار، وهو مبلغ متواضع مقارنة باستثمارات الصين في مبادرة الحزام والطريق، التي بلغت نحو 960 مليار دولار خلال 8 سنوات (2013-2022)، منها 68 ملياراً في عام 2022 فقط.
وبالإضافة إلى الحاجة إلى استثمارات أكبر مما أُعْلِنَ عنه في الممر الجديد، فمن المهم الالتزام بما اتُّفِقَ عليه في نيودلهي، وأكد عليه ولي العهد السعودي في كلمته، بأن يجري خلال الشهرين المقبلين تنفيذ خطة عمل تفصيلية بمواعيد زمنية وآليات محددة للتنفيذ.
الأبعاد الجيوسياسية لهذا الممر لا تقل أهمية عن أهميته الاقتصادية؛ لأنه يمكن بعد تنفيذه أن يزيد من مكانة الولايات المتحدة، وهي الراعية لهذا الاتفاق في المنطقة التي يمر فيها الممر، ويعزز من دورها الإقليمي والعالمي، خصوصاً مقابل مشروعات الصين المتعلقة بطريق الحرير الجديد والحزام الاقتصادي، والمنافسة الشديدة بين الدولتين، فضلاً على التنافس الهندي - الصيني.
وبقدر ما يجري تنفيذ المشروع الجديد، والكيفية التي يتم فيها التنفيذ، فإن ذلك سوف يحدد حجم الظهور – والنفوذ – النسبي للدول الثلاث، وحتى الآن فإن الصين قد فاقتهما في استعدادها للاستثمار بشكل أكبر كثيراً.
ومن وجهة نظر دول الخليج، فإن الأمر يمكن أن يحقق كسباً لكل الأطراف المشاركة في المشروع وللصين إذا توافرت الظروف المناسبة، فقد دعا ولي العهد السعودي إلى «التكامل» بين مشاريع الربط المختلفة، ولهذا يمكن لظهور المشروعين المتنافسين – الصيني والأمريكي - في منطقة الخليج أن يدفع الولايات المتحدة والصين لتكامل مشروعيهما، أو على الأقل التنافس بشكل سلمي.
ويمكن للممر الجديد بذلك أن يساعد على نزع فتيل التوترات بين الصين وأميركا، وبناء الثقة والمصالح المشتركة التي تتمثل في تسهيل التبادل التجاري وأمن الطاقة بين آسيا وأوروبا، ويتبع ذلك الالتزام الضمني بالتعاون الأمني لحماية الممر واستثمارات الدول المشاركة فيه، وإمكانيات التنسيق في هذا المجال.