د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الحكمة من أفواه السياسيين

استمع إلى المقالة

ما أكثر الحكماء الذين رمت بهم الأقدار في غياهب السياسة. حينما تُنقل الحكمة عن سياسي لا يتلقفها خصومه بلهفة، بل على مضض. وما إن تذكر للسامعين مقولة بليغة لسياسي لا يروقهم، حتى تبدأ حفلة الغمز والهمز واللمز.

رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل تزخر خطاباته وكتبه الجميلة بحِكم لا حصر لها، فهو كاتب محترف. وهو الذي قال: «المتشائم يرى الصعوبة في كل فرصة، والمتفائل يرى الفرص في كل صعوبة». وهو من قاد بلاده للنصر في الحرب العالمية الثانية قبل أن يخذله ناخبوه بعدم انتخابه لحقبة ما بعد الحرب، فقال إن «النجاح هو أن تمر بفشل وراء فشل من دون أن تفقد شيئاً من حماستك». والسياسي كإنسان مثل غيره يمكن أن يمنحنا جرعة أمل أو فرصة للتدبر، كما في الحديث الشريف «رُبّ مُبلغ أوعى من سامع»، أي قد يستنبط المصغي من أعماق ما يسمع أفكاراً ومفاهيم لم تَرِد على ذهن الناقل نفسه. ولذلك كان تناقل دُرر البشر مسألة جوهرية لإثراء التجربة الإنسانية، والتفكير، والاستنباط.

ورغم صيته السياسي فإن لديه نظرة حياتية تستحق التأمل نجدها في قوله: «لا تتخلَّ عن شيءٍ لا يُمكِنُ ليومٍ أن يمرَّ من دون أن تُفَكِّرَ بِهِ». ويهمس في أذن المكابر الذي لا يرهف السمع لنصائح مَن حوله: «إذا كنت ذاهباً نحو الجحيم فتابع المضِيّ».

ويبعث إلى الفتيان المعتدّين بأنفسهم رسالة مفادها: عِندما تقول والدتكَ: «ستندمْ على فعل ذلكَ؟» ستندمُ عليه غالباً لا محالة. ولأننا نُمضي وقتاً طويلاً في التفكير في المشكلة وننسى الانشغال بالحل يقول: «عندما يخطئ سهمك هدفه، لا تفكر ما الخطأ الذي فعلته، بل اسحب السهم الثاني وفكر: ما الذي يجب عليَّ فعله بطريقة صحيحة لأصيب الهدف».

والسياسي تشرتشل الذي عَرَكَ السياسة وعركته هو من قال: «من الجندي الذي يقف في الشارع تبدأ هيبة الدولة». ووصف تأثير الأقطار على الصعيد الخارجي بقوله إن «نفوذ الدول يقاس بمسافة نيران مدافعها». ويبدو أنه ضاق ذرعاً بما يشاهد في البرلمانات حول العالم فقال: «إذا أردت أن تعرف أي شعب في العالم انظر إلى برلمانه ومَن يمثله فيه... وبعدها سوف تعرف أي الشعوب يستحق رمي الورود عليه أو ضربه بالأحذية». ربما هي عبارة قاسية، لكنها مثل كل الآراء تحتاج إلى شيء من التأمل فقد تقودنا العبارات التي تتناهى إلى أسماعنا على مدار الساعة إلى ما هو أفضل وأعمق. وروعة العقل البشري أنه يغيّر آراءه نحو الأفضل كلما تقدم به الزمن وتعمقت تجربته وتجرد من الشخصانية. ولذلك ما إن نرى متشدقاً بآراء هشة نتذكر قول ونستون «إذا كنت ذاهباً نحو الجحيم فتابع المضِيّ».

مشكلتنا في الحوار ليست الاختلاف في وجهات النظر بل غياب عقلانية التفكير بعيداً عن عُقدة «مَن القائل؟». فالحكمة ضالة المؤمن. ولذلك يؤلمني أن يحضر نقاشاتنا كل شيء سوى الموضوعية.