أحمد محمود عجاج
TT

«بريكس»... دور محوري للسعودية

استمع إلى المقالة

في السياسة دائماً توجد تبدلات، ومعها تتغير المعادلات، ووفقها تتعدل موازين القوى. فبعد الحرب العالمية الثانية كانت الموازين محكومة بالقطبية الثنائية، وكان العالم الثالث محور استقطاب للسوفيات والأميركان، ثم جاء مصطلح «الدول النامية» ليلطّف مصطلح «العالم الثالث»، «الرامز للدول المستعمرة والفقر»، ليشير إلى أن هذه الدول على طريق التنمية، ثم جاء مصطلح «الجنوب العالمي» ليشمل أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، في سياق عودة التنافس القطبي بين الصين الصاعدة وأميركا المتوجسة من خسارة موقعها الريادي. هذا الواقع الجيوسياسي الجديد سمح بولادة تجمع دول «البريكس» (الهند، والصين، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وروسيا)، ثم جاء قبول ست دول في قمة جنوب أفريقيا الأخيرة، وكان من ضمنها دعوة المملكة العربية السعودية للانضمام، ومعها دول عربية مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، ومن أفريقيا مثل إثيوبيا. بهذا التوسع فإن هناك أسئلة ملحّة: ما مدى فاعلية هذا التجمع؟ وهل سيتمكن من لعب دور فارق في المعادلة الدولية؟ وكيف تستفيد المملكة وتتجنب مطباته؟

من المهم القول إن هذا التجمع مختلف عن تجمعات سابقة مثل دول عدم الانحياز، ومجموعة الدول السبع والسبعين في الأمم المتحدة؛ لأنه لا يقوم على تضامن أخلاقي مثالي، وشعار محاربة الاستعمار، والتخلف، بل إلى فهم لموازين القوى، والتبدلات الجيوسياسية، والريادة الإقليمية، وإلى قناعة بجدوى العلاقات الثنائية، ومفهوم المصلحة، ومتطلبات الواقعية السياسية، وعناصر القوة والسياسة على مستوى الإقليم أو العالم. هذا الوعي سيُمكِّن دول البريكس من تجنب مصير قمة عدم الانحياز التي بقيت بلا تأثير في القرار الدولي؛ فالغاية الواضحة من سلوكيات بعض دول البريكس المدعوة مثل تركيا والمملكة تهدف إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي بكل متطلباته، فلا عجب أن نسمع وزير الخارجية السعودي يقول بعد الدعوة لبلاده بالانضمام: «سندرس التفاصيل وما يتطلبه الانضمام، وسنتخذ القرار المناسب». هذه الدراسة ستأخذ في الاعتبار حتماً المفاضلة بين إيجابيات وسلبيات البقاء خارج التجمع أو الانضمام إليه، لا سيما أن المملكة عضو في قمة الدول العشرين التي تضم أيضاً دول البريكس الخمس الأساسية. وبالمعيار ذاته رأت إيران أن قبولها في البريكس «إنجاز تاريخي»؛ لأن ذلك يحصنها في تجمع تتزعمه الصين وروسيا المعارضتان للسياسة الأميركية، وسيمكنها من التفاوض مع أميركا من موقع أفضل.

بهذه الرؤى يتبين تماماً أن الأعضاء الجدد المدعوين علاوة على القدامى، كلٌّ له أجندته الخاصة، ورؤيته، وبالتالي سيكون صعباً أن يتوصل أعضاؤه إلى قرار جامع. وهذا ليس تنبأً بل واقعاً معيشاً، بدليل أن الصين لها خلافات حدودية مع الهند، وخاضتا حروباً، والهند عضو في الحوار الأمني الرباعي مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، وهو ما تخشاه الصين وتعتبره تطويقاً لها، كذلك المملكة تعتبر إيران مخالفة لقوانين الجوار، وداعمة لميليشيات تتغول على سيادة دول عربية، وإثيوبيا كذلك في خلاف حاد مع مصر، ولا تحبذ جنوب أفريقيا أو الهند أن يكون التجمع معادياً للولايات المتحدة. بالمقابل تحرص الصين على أن يكون التجمع وسيلة لتوسع نفوذها، ومن خلاله أن تخفف تحكّم الولايات المتحدة بالاقتصاد العالمي من خلال إضعاف هيمنة الدولار على المعاملات واستخدامه في العقوبات سلاحاً ضاراً جداً بالدول المستهدفة. ولا شك أن استخدام الدولار في السياسة الأميركية سيحفز عدداً من دول البريكس لإيجاد صيغة تزيد حجم التبادلات التجارية بين الدول الأعضاء بالعملات المحلية، لا سيما أن التجمع يضم 40 في المائة من سكان العالم، وربع الإنتاج المحلي العالمي. هذا ما تطمح إليه الصين، وتحبذه روسيا، ولا تعارضه بقية الدول لكونه سيُحصِّنها ضد أي عقوبات مستقبلية محتملة.

لا شك أن الدول العربية، وتحديداً المملكة؛ لكونها المؤثر الأكبر في المنطقة، التي يحاول المتنافسان (أميركا والصين) استقطابها، لا تحبذ أن تكون في كتلة صلبة ذات طابع آيديولوجي، أو ترفع شعارات قد تكون عبئاً على قرارها الاستراتيجي، ولذلك فإنه في حال قررت الانضمام لن تنتقل من حليف تقليدي للغرب إلى موقع معادٍ كما يقول بعض أصحاب الشعارات والآيديولوجيات في دول معينة. فما هو مشاهد أن المملكة والإمارات تميزتاً مؤخراً بسياسات استقلالية أكثر مما اعتاده المراقبون، ولعل التقارب السعودي الصيني، والتوجه الاقتصادي وتطويره، مؤشر جليّ على رغبة أصحاب القرار بالاستقلال الاستراتيجي دونما الإضرار بالتحالف التاريخي مع الغرب، والإشارة إلى أن الصداقة المستجدة مع الصين ضرورة اقتصادية لا غير؛ بهذا النمط تتحول المملكة لنقطة جذب لكلا الطرفين، وتحسن أكثر من قدرتها التفاوضية لنيل ضمانات أمنية، ومعرفة تكنولوجية لتطوير اقتصادها وتنويعه. بالمقابل تدرك الولايات المتحدة، وكذلك الصين، أن ملاءة المملكة المالية سيجعلها فاعلة في البريكس؛ لسببين: أولاً، لم تعد الصين متحمسة لإعطاء القروض لكونها أنفقت أكثر من تريليون دولار على طريق مشروع الحرير، وتحولت قروضها لدول «الجنوب العالمي» إلى عبء كبير على تلك الدول، مما أدى أحياناً إلى استحواذ الصين على مرافئ وثروات دول عاجزة عن السداد. ثانياً: وجود المملكة بوصفها مقرضاً فرصةٌ لبديل أفضل، وهذا سيكسب المملكة صداقات، ويمكنها من توسيع شراكاتها الاقتصادية، وجني فوائد مالية.

الغرب لن يقف مكتوف الأيدي إزاء هذا التطور، بل سيسارع إلى تطويق هذا التجمع باللعب على وتيرة خلافات وتوجهات دول البريكس، وسيتخذ إجراءات، سواء ترهيبية وترغيبية، ضد أي دولة تنقلب على مصالحه؛ لذلك فإن المملكة، بتمهلها وتشديدها على دراسة الانضمام، تعي حتماً هذه المخاطر، ولعل الحذر سيكون دائماً موجوداً، وستحرص إذا ما انضمت على أن تكون في تجمعٍ جيواقتصادي، وليس تجمعاً جيوستراتيجياً يكرر تجارب تكتلات «عالمثالثية» غير موفقة.