يقال إن أرشميدس حين توصل إلى قانون الطفو خرج من الحمام صائحاً: «وجدتها وجدتها». وجد أن القوة التي يَدفع بها سائلٌ كالماء جسماً مغموراً فيه تساوي وزن السائل الذي يزيحه هذا الجسم حين يُغمَر. صيغة بسيطة للغاية. منطقية تماماً. كل مفردة في المعادلة معروفة سابقاً.
حدوتة أخرى صيغت عن نيوتن والجاذبية والتفاحة. ولنا أن نتخيل سعادة نيوتن وقد توصل إلى قانون مبهر يفتح باب فهم الكون. معادلة ضرب وقسمة بسيطة، عناصرها معامل ثابت وكتلة ومسافة. لكن على بساطته الظاهرة ظل منطقها سراً مستعصياً لقرون. أو نتخيل سعادة أينشتاين وهو يقدم أشهر معادلة في تاريخ الفيزياء، الطاقة تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء. كل هذه المعادلات البسيطة صمدت للاختبار التجريبي.
هذه النظرة العلمية التجريبية تَخرج من عالم الفيزياء لتتمشى في عقولنا، وتستقر في سلوكنا، وتنعكس في نظرتنا للأمور. ما من تطور علمي إلا غيَّر فلسفة الإنسان، وما من مجتمع بشري قادر على التطور إلا بعد أن تستقر هذه الفلسفة التجريبية في عقله. المجتمع ذو التفكير الخيالي لا يملك ما يؤهله للاستفادة من الطبيعة؛ لأنه لا يعترف بها على حقيقتها.
ذلك أن العامل المشترك الأهم بين كل المعادلات الصحيحة أنها تكتشف ما هو كائن بالفعل، وتتسق معه، فتنجح في التجربة. لا أرشميدس، ولا نيوتن، ولا داروين، ولا أينشتاين، أنفق جهده لكي يقنعنا بما يتمنى، وإلا لذهبت جهودهم بدداً، مهما حاولوا. إن فشلت التجربة، إن لم تصمد في الاختبار التطبيقي، فالعيب في النظرية لا التطبيق. انتهى. هذا درس يتعلمه العلماء التجريبيون مرة بعد مرة، وفشلاً بعد فشل، حتى يلتقوا والحقيقة في نقطة، فيكون النجاح. لا يقترح أحدهم كينونة بديلة، أو تعديلاً هنا أو هناك، لو كانت لكان العالم أفضل. لا ينصب أحدهم من نفسه إلهاً. يعلمون أن أي تغيير طفيف في عنصر من عناصر المعادلة يتلفها.
واكتشاف الموجود لا المرغوب، وما يحكمنا بالفعل لا ما نستلطفه، هو سعادة الفيزيائي، وهو أيضاً ما يجعل الفيزياء أكثر العلوم خدمة لنا. وأقدرها - يا للعجب - على تحقيق معجزات تتحدى الطبيعة دون اختراق قوانينها. الإنسان غاص في البحر بسبب معرفته العميقة بقانون الطفو. الإنسان تغلب على الجاذبية بسبب معرفة قانون الجاذبية. المهارة في كرة القدم أو الفورميولا وان أو الهندسة أن تكون بارعاً دون أن تكسر القوانين.
مهم هذا للسياسيين، والمفكرين النظريين، والاقتصاديين. لو تحرينا سعادة الفيزيائي لَعَلِمْنَا أين مكمن الخطأ في التنظير السياسي والاقتصادي. الأفكار النظرية ملعب مفتوح لممارسة ما يتجنبه الفيزيائيون. يبني النظريون أفكارهم على صورة متخيلة للطبيعة البشرية، أو على صورة مصطنعة لها، مرة بدافع ديني، ومرة بدافع أخلاقي، ومرة لأن البناء التخيلي أجدر بتحقيق الكسل. آفة حارتنا التفكير الخيالي، بل إن العالم الأوسع يرتد الآن نحو ادعاءات بلاغية تقدم أوهاماً مصوغة بجميل الكلام، على حساب التفكير الطبيعي، البسيط، المباشر. الفيزياء، على عكس الاقتصاد، لا تخضع لتصويت عددي، ولا تعترف بالاستنساب.
النتيجة أننا لا نسعد في السياسة والاقتصاد بنجاحات شبيهة بنجاحات الفيزيائيين. لا تستطيع معادلة الاقتصاد أن تتحرر من ثقل الكفالة والإعالة ولو تمنينا. كما لا تستطيع أجمل الكلمات، ولا أعلى الحناجر، ولا المشاعر الأرق من قشور الثلج، أن تغير هذا. الاقتصاد الشعاراتي يشبه فيزيائياً مصمماً على نجاعة معادلته، يتقلب فيها عقداً وراء عقد، ويصر أنها ستثبت نجاحها المرة القادمة، بينما زملاء له في غرف مجاورة قدموا بالفعل معادلة متسقة مع ما هو كائن، اختبرت ونجحت.
التجارب الاقتصادية الناجحة في العالم متاحة للاطلاع، لكن على بساطة معادلتها ومنطقها فإن إقناع العقول خيالية التفكير بقانونها البسيط صعب. تريد العقول خيالية التفكير أن تختلق معادلة خيالية تسعد بها، وتقر بأن الطبيعة البشرية عنصر أصيل في المعادلة الاقتصادية، لكنها تفترض بشراً غير البشر كما نراهم بأعيننا، بشراً منزوعي غريزة التنافس ورغبة الطموح، بشراً متماثلي القدرات الجينية. معادلة خيالية تفترض عطايا ومنحاً تتسلل إليها ولا تغير فيها، كما افترض بعض الأقدمين وجود عباءة الإخفاء، وإكسير الحياة. معادلة خيالية تفترض أن الوعد المكسور لن يضيع الثقة، أو أن الإنسان يمكن أن يتحرك دون غريزة الامتلاك والدفاع عن حيزه الخاص وحدود نفوذه مثل غيره من الكائنات، وتفترض أن الأفكار العدوانية لن تنفر الاستثمار، وتفترض أن الملعب غير المستوي لن يؤثر سلباً في مهارات اللاعبين، أو يلحق بهم إصابات تضطرهم إلى الخروج من الملعب.
من أجل ذلك كله، أتمنى أن نتحرى سعادة الفيزيائيين، وأن ننعم بها.